* دمشق - الجزيرة - عبدالكريم العفنان:
العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة أدت إلى توتر العلاقات ما بين أنقرة وتل أبيب.
عمليا فإن الترجمة المباشرة لما حدث كان نقل وسائل الإعلام التركية رفض رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان قبول دعوة لزيارة إسرائيل، مبينا أن العمليات في غزة تعني أن الوقت ليس مناسباً لمثل هذه الزيارة.
على الأخص ان هناك عددا من القضايا الحساسة التي تربط الجانبين، بدءا من الصفقة التي تبلغ قيمتها 800 مليون دولار لبناء ثلاث محطات طاقة تعمل بالغاز الطبيعي في إسرائيل، وانتهاء بعقود المياه والتقنيات العسكرية.
التكوين العام للعلاقات الإسرائيلية - التركية
اكتسبت العلاقات الثنائية بين تركيا وإسرائيل أهمية خاصة خلال زيارة وزير خارجية تركيا حكمت تشتسين إلى تل أبيب في 13 تشرين الثاني 1993، حيث حملت تطورا نوعيا كونها الأولى منذ قيام الكيان الصهيوني على المستوى السياسي، وأظهرت استراتيجية تنسيق عسكري مشترك يشمل المجالات التقنية العسكرية والتدريب والتسليح والتعاون في الاستخبارات في جميع فروع ومستويات القوات المسلحة.
وظهر هذا التعاون على صعيد الصناعات العسكرية والمناورات العسكرية المشتركة، وتبادل الخبرات في الجو والبحر والبر.
وكانت آخر الصفقات العسكرية بين تركيا وإسرائيل تمت في منتصف تموز عام 2002، حيث قررت تركيا ان تعهد بتطوير نحو 300 طائرة هليكوبتر من أنواع مختلفة، هجومية أساسا، إلى الشركة الإسرائيلية العامة (ميليتري اند ستريز) لقاء مبلغ مقداره 110 ملايين دولار، حسبما أفاد مصدر رسمي تركي.
وتقوم الصفقة في إطار المشروع الذي بدأته الحكومة التركية سنة 1997، على تزويد المروحيات بأنظمة حربية إلكترونية بما فيها تجهيزات تعمل بالليزر، وأنظمة تحذير من الصواريخ، وأنظمة تشويش.
ويعد هذا المشروع ثاني المشاريع التي يعهد بها إلى الإسرائيليين بعدما عهد بمشروع تطوير 170 دبابة من نوع أم 60 من صنع أمريكي إلى الشركة الإسرائيلية العامة في آذار من نفس العام، بموجب عقد بقيمة 668 مليون دولار.
وكان الرئيس الإسرائيلي السابق عزرا وايزمان زار مدينة اورفا والمناطق المجاورة لها مرتين منذ عام 1992.
كما زار المنطقة العديد من الوزراء الإسرائيليين، وممثلو المنظمات اليهودية الأمريكية، ونجحت العديد من الشركات الإسرائيلية في التوقيع على اتفاقيات للتعاون مع الدولة التركية وبشكل خاص إدارة مشروع (الغاب).
وكانت الحكومة التركية وافقت خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون إلى تركيا العام الماضي على تأجير 200 ألف دونم من الأراضي الزراعية للشركات الإسرائيلية التي ستقوم بتنفيذ مشاريع للري والزراعة فيها.
ولا يُخفي الكثير من سكان المنطقة من عرب وأكراد وأتراك تخوفهم من التوغل الإسرائيلي واليهودي فيها حيث منابع الفرات ودجلة.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي للمدن الفلسطينية لينهي شهر العسل بين أنقرة والقوى التي أعطت الضوء الأخضر لصندوق النقد الدولي ليزيد مساعداته للأتراك بعد أحداث أفغانستان.
فقد اتهم أجاويد إسرائيل بالقيام بمجازر عرقية جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
وصف أحد كبار قادة الجيش الإسرائيلي فوز حزب العدالة والتنمية، الموصوف بأنه إسلامي التوجه، في الانتخابات التشريعية التركية التي جرت في 3 نوفمبر الماضي، بأنه كارثة على العلاقات الإسرائيلية التركية، في الوقت الذي ذكر فيه مسئول سياسي أن على إسرائيل أن تحترم اختيار الناخب التركي.
ومهما كانت درجة صدق أي من هذين المسئولين فإن النجاح الكاسح الذي حققه حزب العدالة والتنمية يتطلب معرفة آفاق العلاقات التركية الإسرائيلية بعد التحول النوعي الذي طرأ على الساحة السياسية التركية، خاصة أن هناك رؤيتين متباينتين حول هذا الموضوع، ترى الأولى أن هذه العلاقات لن تتأثر بهذا التحول، أما الأخرى فترى أن تحولا كيفيا سوف يطرأ عليها في ظل المستجدات التي شهدتها تركيا.
عمليا فإن تركيا ومنذ عام 1947 عارضت قرار تقسيم فلسطين، ورفضت بالتالي الاعتراف بإسرائيل، لكن العوامل الخارجية وظروف انحياز تركيا للعالم الغربي خلال الحرب الباردة لعبت دورا حاسما لكي يصبح اعترافها بإسرائيل أمرا واقعا، حيث تم تبادل السفراء بين البلدين عام 1952، كما حدث تحول ثانوي في موقف تركيا من الدول العربية عندما قدمت تنازلات للدول العربية من أجل جذبها إلى حلف بغداد.
وظلت تركيا تتبنى موقفا حياديا إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، وإن كان يضع في اعتباره حجم المصالح الاقتصادية مع الدول العربية، فأيدت القرارات العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة بما فيها قرار اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية الذي صدر في نوفمبر 1975، كما اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
وكان المرجح لدى معظم المراقبين أن يسهل اعتراف مصر بإسرائيل عام 1978 عودة تركيا إلى علاقاتها المتوازنة مرة أخرى بين العرب وإسرائيل، ولكن جاء هذا الصلح في وقت كانت ترتفع فيه أسعار النفط في أعقاب الثورة الإيرانية، وجاء الرد المتشدد على هذا الصلح من كل من العراق وسوريا، ليشكل رادعا لتركيا في محاولتها السياسية المحايدة، خاصة أنهما دولتان متاخمتان لها.. وخلال هذه الفترة سمحت تركيا لمنظمة التحرير الفلسطينية بأن تفتح مكتبا لها في العاصمة التركية، واحتجت تركيا بشدة على ضم إسرائيل للقدس المحتلة، وسحبت القائم بأعمالها في تل أبيب، وخفضت تمثيلها الدبلوماسي مع إسرائيل.
ومع بدء عمليات حزب العمال الكردستاني عام 1984 بدأت العلاقات بين الجانبين تعود إلى حالتها الطبيعية، حيث زاد التعاون في المجال الاستخباري، خاصة أن الانفراج بدأ يعود إلى العلاقات المصرية العربية، الأمر الذي رأت معه تركيا أن إقامة العلاقات مع إسرائيل أصبح أمرا مشروعا.
وتوقف التحسن الذي طرأ على العلاقات التركية الإسرائيلية بين أوائل ومنتصف الثمانينيات باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، ووجدت تركيا نفسها قادرة على انتهاج سياسة محايدة في المنطقة، وحاولت تقليد النموذج المصري، القائم على الجمع بين معاهدة الصلح مع إسرائيل، والعلاقة الوثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبقبولها من الدول العربية.. وكان باستطاعة تركيا أن تتمثل بمصر كسابقة، إذا ما تعرضت علاقاتها مع إسرائيل للانتقاد من الدول العربية.
وحدثت منذ منتصف التسعينيات طفرة في العلاقات التركية الإسرائيلية، حيث بدأت العلاقات بينهما تأخذ أشكالا من التعاون، لكن فوز الأحزاب الإسلامية أعاد إلى الواجهة الكثير من الخلافات.
وتأثر هذا الوضع بأمرين:
- الأول هو الوضع العراقي، وما خلفه من تباينات في المواقف اعتبرت مصيرية بالنسبة للأتراك، فتحالف الأكراد في شمال العراق مع قوات التحالف خلق شرخا في العديد من المسائل، ومنها العلاقات الإسرائيلية التركية.
- الثاني هو التنسيق الإقليمي المتوازي الذي قامت به تركيا بفتح علاقات واسعة مع سوريا، إضافة لتطبيق بنود سياسية تتيح لها الدخول إلى الاتحاد الأوروبي.
مستقبل العلاقات
الإسرائيلية - التركية
الملاحظ أن تدهور العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بات واضحا بسبب سياسة إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة، وهو الأمر الذي دفع الشعب التركي إلى التظاهر أكثر من مرة احتجاجا على هذه السياسة، وظهر خطاب نقدي حاد لإسرائيل من قِبَل العديد من الساسة الأتراك.
واليوم يأتي إلغاء بعض الصفقات العسكرية ليوضح مدى الشرخ القائم.. فإذا كانت هذه الصفقات تم إلغاؤها على خلفية المشاكل التقنية التي ظهرت خلال تنفيذ العقود، لكن العامل السياسي لا يمكن إغفاله؛ فهناك ما يشبه تجميد التعاون التركي - الإسرائيلي في معظم المجالات ومن بينها المجال العسكري.
وهناك أيضا تراجع تركيا عن صفقات سلاح قيمتها مليارات الدولارات كان من المقرر شراؤها من إسرائيل، وهذه الصفقات يمكن أن تلغى تماما بعد التطورات السياسية الجديدة في تركيا.
ومن الملاحظ أن الدفعة الأساسية التي شهدتها علاقات البلدين كانت تتركز على الجانب العسكري، وعلى اتفاق التحالف الاستراتيجي، وهذا الأمر هو من اختصاص المؤسسة العسكرية، ووجود حكومة منتمية لحزب العدالة والتنمية بغض النظر عن موقفها من إسرائيل، لن يلعب دورا رئيسيا في وقف هذا التعاون، الذي سوف يكون خاضعا لرغبات المؤسسة العسكرية، وإن كانت لا تضع أية أهمية لرغبات السياسيين وتصوراتهم، فهي يمكن أن تضع أهمية لرغبة الشارع التركي، حتى لا تفقد مصداقيتها لديه.. وجزء كبير من شرعيتها قائم على احترام المواطنين لها، وبالتالي فإن ضغوط الشارع التركي يمكن أن تدفع هذه المؤسسة إلى مراجعة سياساتها تجاه إسرائيل.
فالمؤسسة العسكرية التركية مضت قدما في طريق تعزيز علاقاتها العسكرية مع إسرائيل مدفوعة بعدة أسباب:
أولها هو أن الولايات المتحدة رفضت التعاون المباشر مع تركيا، خاصة في مجالات شراء قطع غيار الأسلحة وصيانتها، وطلبت من الأخيرة التعاون مع إسرائيل في هذه المجالات، وبالتالي فهي كانت مجبرة على هذا التعاون.
وثانيها، أن إسرائيل عرضت على تركيا مدها بالخبرة التكنولوجية العسكرية المتقدمة، وهذا الأمر لم يكن تستطيع الحصول عليه عن طريق آخر إلا بتكاليف باهظة من الناحية المالية.. ونتيجة ذلك شهد التعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل خلال حكم أربكان طفرة لم يشهدها قبل هذه الفترة وبعدها.. وليس من المستبعد أن تتبع المؤسسة العسكرية نفس النهج مع الحكومة الجديدة، سواء بهدف تحجيمها أو لاختبار القوة وجس النبض، أو استفزازها.
والسؤال المطلوب الإجابة عنه هو: كيف سيرد رجب طيب أردوغان على هذا التحدي..؟ وبغض النظر عما سوف تتخذه حكومة عبد الله جول من إجراءات أو خطوات تجاه العلاقات التركية - الإسرائيلية، وعما سوف يكون عليه موقف قيادات الجيش من هذا الأمر، فمن المرجح ألا تعود الحرارة إلى هذه العلاقات على النحو الذي تريده إسرائيل، والتي كانت تعتمد على علاقاتها مع تركيا، لكي تكسر عزلتها في محيطها العربي - الإسلامي، لكن الجانب العربي مطالب بتعزيز الموقف التركي، سواء عبر آليات التنسيق السياسي، أو من خلال دعم التعاون، على الأخص مع دول الجوار الجغرافي.. وهذا ما نلحظه عمليا في العلاقات التركية السورية، أو حتى التركية اللبنانية.
فتركيا في النهاية خاضعة لظرف إقليمي مثلها مثل باقي دول المنطقة، وتعزيز التعاون معها يخلق روابط ستكون بالتأكيد أقوى مما تسعى إليه الحكومة الإسرائيلية.
|