وأبقى مع الصيف وسبل القضاء على معاناته في المدينة المنورة لأسجل انطلاقا من قباء (مصيف المدينة الجميل) عديداً من المناظر والعادات، فعلى مشارف قباء حول الحدائق، وعلى الطريق تنتشر عشرات المقاهي، التي تقدم الشاي الأحمر والأخضر وشاي النعناع، وماء القلل الفخارية، وشيش الجراك والتنباك، وكان الجميع يجلسون على كراسي شريط عملت مقاعدها بالحبال المفتولة المأخوذة من لحاء نخيل المدينة، وقوائمها في الغالب من الخشب الجاوي، وعلى الكرسي الواحد يجلس عادة شخصان أو ثلاثة، وإلى جانب هذه الكراسي هناك جلسات أرضية ومساند، لمن يواصلون السهر في المقهى إلى ساعة متأخرة من الليل، وعادة ما يقضي هؤلاء أمسياتهم في لعب البلوت والكونكان والباصرة والدمنو، وهؤلاء قد يأتون معهم باللحم والأرز، ليقوم صاحب المقهى بطبخ وجبة العشاء لهم، وفي الغالب يكون هؤلاء من علية القوم الذين يملكون سيارات خاصة، بعضها مكشوف وبعضها مظلل، والشيء المفرح أن الكثير من أثرياء المدينة كانوا يقضون صيفهم بهذه الطريقة في نفس المدينة، وقليل منهم يسافرون إلى الطائف لعدة أيام، وبعضهم يسافرون براً إلى الشام (الأردن وسوريا ولبنان) والفئة الاخيرة تتكبد خسائر فادحة في هذه الرحلات، قد تجعلهم يعانون منها طوال العام، لكنها رحلة واحدة في العمر، تظل معهم طالما هم على قيد الحياة، ولن تستغرب إذا جلست مع أحد من زوار الشام أن يلوي الحديث كلما جاء الصيف لينوه بأنه قد زار الطائف أو الشام، حيث الهواء والفواكه والطرب!
أما المصيف الثاني في المدينة، فقد كان آبار علي، وهي منطقة ينطلق منها أبناء المدينة وزوارها إلى جدة ثم إلى مكة المكرمة، وفي هذه المنطقة يحلو الأرز بالعدس في أماسي الصيف، لكنها لم تأخذ ألق قباء ونقاء جوها وحلو مائها!
لم يبق الآن في قباء غير مسجدها، وبعض القرى، فقد غزا العمران هذه المنطقة، وكتم على هوائها، متضامنا مع الاسمنت والحديد وعوادم السيارات.. حتى (الأنيسة) تغير اسمها ولم يعد يركبها إلا الحفاة، وهم هذه المرة من العمالة التي تستقر في المدينة، فقد أصبح ابن المدينة يستنكف عن ركوبها، في ظل توفر أحدث الموديلات من السيارات الكلاسيك والشبابية، وكلهم لا يتوقفون الآن في قباء إلا للصلاة في مسجدها، فقد طمست المعالم وماتت المزارع وجفت عيون الماء، ولا ندري ما هو مصير مساجد بنات النجار، تلك القباب الصغيرة التي كنا نمر بها في الذهاب والعودة، وقبلها القلعة، التي منها كان ينطلق (المدفع) معلنا عن قدوم رمضان أو عيد الفطر السعيد!
أما أهل المدينة الآن، فقد أصبحوا مثل غيرهم من المواطنين، يشدون رحالهم حالما تنتهي الاختبارات المدرسية إلى كافة الدول، خصوصاً الدول العربية، حيث هناك يقضون كافة شهور الصيف، ولا يعودون من هناك إلا عند بدء العام الدراسي، بل إن بعضهم لا يترك إجازة، كبرت أو صغرت، دون أن يكون خارج المملكة!
إنها الوفرة ومعها البذخ، وهما داءان، يبدو أن علاجهما بات صعبا ويحتاج إلى قرار أصعب، وإلا فلماذا يستلف الناس أموالاً يسددونها في عام كامل، لقضاء شهر أو شهرين خارج المملكة!
الهواء أو الطقس في بلادنا لم يتغير، لكن شيئا ما تغير، جعلنا نستبدل الطائف وأبها والباحة وقباء بغيرها من الدول، والمؤسف أن بعض هذه الدول طقسها أشد حرارة من طقس بعض مدننا.. لكن الناس لم تعد تبحث عن الطقس المعتدل، إنه ليس كل شيء.. الآن!!
فاكس 014533173
Email:
|