Tuesday 13th July,200411611العددالثلاثاء 25 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

محيي الدين اللاذقاني في كتابه (نورس بلا بوصلة) محيي الدين اللاذقاني في كتابه (نورس بلا بوصلة)
فيينا أسمهان وهافانا غيفارا وبندقية كازانوفا رحلات في مدن العشق والأساطير

منذ ورقة الاهداء في أول كتاب (نورس بلا بوصلة) الذي يسوح مع قارئه في مدن العشق والاسطورة، تدرك أن المؤلف محيي الدين اللاذقاني يغريك بالرحلة الروحية قبل الابحار بالجسد.. فالمدن تحمل صفات النساء وتقبل كل افعال الحب والكره والاهمال والهجران والمغازلة، فهناك مدينة تحبها لأول نظرة وأخرى تقرر مقاطعتها وعدم العبور فوقها، وثالثة تحب ان تنادمها وتمشط جدائلها الممتدة الى البحر وتداعب أناملها المستحمة بدفء على رمال الشاطئ.. فللمدن أرواح كالبشر، حيث تجد مدينة سمجة الروح وأخرى سمحة وثالثة طروبا لعوبا غنوجا مراهقة فاتنة.
ومن خيارات اللاذقاني لمدنه ذات الخصوصية الرومانسية والأسطورية يتكشف منهجه في هذا الكتاب الذي يجدد روحانية الرحالة الكبار، فهو يقف على جسر التنهدات في البندقية ويحاور ليالي الانس في فيينا بعد أسمهان، ثم يحكي عن انس من نوع آخر في هافانا حيث يتلاقى كاسترو وغيفارا مع ارنست همنجواي وخوسيه مارتي في مدينة تنازع مدنا أخرى على تراث كولولمبس ورفاته.
وتوضيحا لرؤيته لذلك النوع من السفر الذي يصنع أدب الرحلات يقول الدكتور محيي الدين اللاذقاني في مقدمة كتابه الجديد: (لقد كنت أرى المدن من خلال قصص الحب واشعاره أكثر مما أجدها في وثائق الحروب والكراهية، فالسفر كالضياء فعل محبة يشرق داخل النفس لينير الزوايا المعتمة، وبذا تتلاقى وتتلاقح في لحظة ما في مكان ما مشاهد البصر مع تجليات البصيرة).
ولكتاب (نورس بلا بوصلة) غير جاذبية مدنه المعجونة بالتاريخ والعابقة بالرومانسية والاساطير فتنة أخرى تأتي من الأسلوب الرشيق الأنيق الذي اشتهر به اللاذقاني.
ومن مدن الأساطير العربية غير البصرة وبغداد والقدس مسرى النبوات يقف المؤلف عند مدينتين في شمال افريقيا تلخصان المجد العربي في تلك البقاع هما فاس والقيروان، والثانية يطلق عليها - قيروان سيدي عقبة - احتراما لبانيها ومجددها عقبة بن نافع، الذي تدور حوله أساطير عديدة تدعم الصورة الروحانية لتلك المدينة العربية الإسلامية التي كانت موطنا لسحنون وابن الفرات وابي زمعة البلوي وعلي الحصري القيرواني صاحب الموشح الاشهر الذي يفتن به محمد عبدالوهاب الالباب منذ - مضناك جفاه مرقده - وصولا الى جميع أفانين العشق التي تسبق سؤال العارف:


يا ليل الصب متى غده
أقيام الساعة موعده

ومن روحانية القيروان الأولى قبل ان يخربها الهلاليون الذين شردهم الفاطميون الى شمال افريقيا ليتخلصوا من شرورهم في مصر وفلسطين الى دنيوية فاس المغربية يسافر الكاتب بقارئه الى تلك الاصقاع ليجعل من عاصمة المرينيين من خلال صراعها مع الاندلس نموذجا لفهم تركيبة السلطة العربية المثقلة بكوابيسها وكواليسها..
أما الشخصية التي تساعده على ذلك التحليل العميق فهي شخصية لسان الدين بن الخطيب وزير غرناطة وشاعرها الذي هرب من بني الاحمر في الاندلس، وأقام في سلا ثم فاس التي لاقى حتفه فيها بمؤامرة من تلميذه العاق ابن زمرك الذي تغطي الى اليوم قصائده جدران قصر الحمراء.
ومع مكائد السياسة العربية في فاس يجد الدكتور اللاذقاني الوقت لتأملات روحية في عاصمة المرينيين في مدرسة البوعنانية وفي سوق الصفارين الذي يقول عن شجرته: (عبرنا فاس الجديدة دون اكتراث، وما هي إلا دقائق حتى لاحت لنا فاس القديمة الاصلية كمحارة نصف مفتوحة في حضن جبل زالغ فاقتحمناها ورهبة التاريخ تملأ قلوبنا من باب سيدي العواد الذي اسلمنا الى ساحة الصفارين، حيث وجدنا شجرة توحد الله على قرع النحاس منذ ألف عام فلا هي شبعت من التسبيح ولا النحاس ذاب اجلالا لتقواها).
ومن السهل ان تعرف المدينة التي لم يحبها الكاتب من اسلوبه فهو حين يتحدث عن نيويورك تحس بالضجر وعدم الارتياح لتلك المدينة منذ الصفحات الاولى، أما حين يحكي عن فيينا فان الحروف ترقص جذلة لتعكس حبه وارتياحه لتلك المدينة التي يخلط سيرتها بسيرة أسمهان لتكتمل ليالي الانس فيقول في ذلك المزج المتقن بين مدينة وامرأة: (ليالي الانس ليست في فيينا انما في ضواحيها، حيث الألف والموسيقى التي تصدح من الحدائق، ولم تكذب أسمهان ولا خدعتنا فقد كانت تتجمل فقط، وحين نكون مع من نحب تصبح كل ليلة -أنَّى كانت- قمة ليالي الانس.. وكانت أسمهان حين زارت فيينا مع احمد سالم الحبيب الذي سرقته من تحية كاريوكا، فلما اتهمته في - ليالي الغم- بالقاهرة انه حاول قتلها واستدعوا الست تحية للشهادة وسألوها ان كانت تحقد على أسمهان قالت: بالعكس لقد قدمت لي بتخليصي منه أكبر خدمة في حياتي).
وفي فيينا كان لابد ان تظهر مع سيرة أسمهان حكايات شترواوس وموتسارت وبيتهوفن وغيرهم من اساطين الموسيقى الذين عبروا في تلك المدينة او أقاموا فيها.. كذلك كان للامبراطور الفرنسي نابليون في تلك المدينة نصيب، فقد تزوج احدى اميراتها.
ان خلط التاريخ القديم بالحديث طريقة يلجأ اليها اللاذقاني حين يحكي عن مدن العشق والاسطورة، او يصفها.. ففي المكسيك مثلا وبعد وقفة فوق اهراماتها الشهيرة في - تشتزانيتزا - ينتقل المؤلف الى الحديث عن الرسامة المسكيكية فريدا كالو التي ربطتها قصة حب مع الثائر الروسي الاشهر تروتسكي وتحولت سيرتها الصاخبة مع عشاقها وعشيقاتها الى فيلم قامت ببطولته الفاتنة سلمى حايك.
وفي هافانا حيث الأساطير تمتد من كولومبس الى غيفارا لا يتوقف اللاذقاني عند السياسة وحدها، انما يعطي أيضاً للتاريخ الثقافي حقه من خلال الشاعر خوسيه مارتي والكاتب الأمريكي ارنست همنغواي الذي تحول بيته في ضواحي العاصمة الكوبية الى متحف، وفي ذلك المكان يسأل الكاتبُ العربيُّ همنغواي بعد حديث عن الصيد ومصارعة الثيران ثم الاسماك في الشيخ والبحر: هل نحن صيادون أم فرائس مسيو همنغواي؟
ثم يتابع مخاطبا الكاتب الأمريكي: (يا من وزعت حبك بالتساوي بين باريس وهافانا وبامبلونة وبرشلونة فأثبتَّ انك تفهم بالمدن ذات الأرواح الحية الصاخبة، أما النساء وفهمك لهن ففي المسألة قولان وأكثر، فكل ما كتبته وتركته لا يدل على انك عرفت كيف كيف تقترب من المرأة التي تلوح لك بالراية الحمراء أيها الثور المثخن بجراحه الداخلية).
ولم ينس الكاتب السوري - حيث سوريا ولبنان مهد الفينيقيين - أثناء عبوره في جزيرة كريت ان يذكر الاغريق بالدين الفينيقي الذي أقرضهم اياه قدموس حين نقل الابجدية الى تلك الاصقاع التي لم تكن تعرف الكتابة قبل رحلة قدموس المضنية بحثا عن اخته أوروبا التي خبأها زيوس في كريت قبل أن تعطىي اسمها لتلك القارة الشاسعة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved