تقوم بين الناقدين (سعد البازعي) و(عبدالعزيز حموده) وشائج تقارب وافتراق, وكأني بهما يقتسمان الهم والمهمة والرؤية والتصور, ويتحسسان عن مواقع التيه والرشاد للنقد الحديث. واقتراب أحدهما من الآخر يوطئ له تجانس المصادر والموارد, إذ يتظامَّان في التلقي المنضبط من الآخر, ويقتربان من وعي الحد المسموح به. وما أكثر المتلقين وأقل الواعين.
فالذين ذهبوا إلى الغرب أو الشرق, وتلقوا معارفهم على أيدي أساطين الاستشراق, عادوا إلى حضارتهم واعدين أو متوعدين. فطائفة من المبتعثين استوعبت الحضارة الغربية, وعرفت مكوناتها ومحركاتها ومقتضياتها. وهذا حسن ومطلوب, ولكن عيبها أنها استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير, ظناً منها أن الحضارة الاسلامية ترفض مدنية الآخر وعلمه, وأن إظهار الدين وإقامة شعائره عقبة في طريق المعامل والمختبرات وسبر الآيات في الآفاق والأنفس, ولم تكتف بالاستبدال, وإنما تجاوزت ذلك إلى الوقيعَة والتوهين والمساس بأهلية الحضارة الأحق بالوجود الكريم, وتحميلها تقصير أهلها المشهود بالصوت والصورة. ومن زكى أحوال المسلمين فقد واطأ على التخلف. وطائفة أخرى لم تكن قادرة على الاستيعاب, فعادت متورمة متشبعة, كالعائل المستكبر, أو كلابس ثوب الزور, تدعي تضلعها, وتدعو إلى أوهامها, وهذه الطائفة هي التي تملأ الرحب, وتستأثر بوسائل التوصيل, إذ تغامر ببدنها, والغريق لا يخشى من البلل, والذي لا يلوي على شيء لا يخاف من المغامرات, والنظارة تستهويهم البهلوانيات. وطائفة ثالثة تضلعت من الطارف والتليد, واختطت لنفسها طريقاً قاصداً, متيحة فرص التفاعل بين الأشباه والنظائر. إذ ما من حضارة إلا ولها مع سائر الحضارات مناطق لقاء وافتراق. والحصيف المتضلع من يدق نظره, ويلقي سمعه, ويفقه ذاته, ويستوعب غيره, حتى إذا التطمت في فكره أمواج الحضارات, أخذ من الطارف ما ينقص حضارته من قيم علمية أو فنية أو مدنية, واستدعى من التليد ما لا تقوم الحضارة إلا به من ثوابت, هن أم الحضارة.
وكل حضارة لها حيازاتها التي تميزها, ومشاركاتها التي تفعلها. إذ ليس هناك نص محض, ولا حضارة محض. والإسلام استوعب طائفة من قيم الجاهلية, والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض أخلاق القوم وممارساتهم, وأثنى على خيارهم في الجاهلية, واستحسن إبداعات بعض الشعراء, وقال عن شعر (أمية) أسلم لسانه وكفر قلبه - أو كما قال - وأحسبه تمنى رؤية بعض الشعراء, وأكبر (سفّانه) لأن أباها يحب مكارم الأخلاق, وفضّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه شعر (زهير), وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد زعماء القبائل بعد إسلامه: - (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة). فهل (الشيوعية) تنصف (الرأسمالية)؟ وهل إحداهما تذعن للحق, وتسلم له, مثلما سلّم له الإسلام؟ ذلك بعض ما غفل عنه المبهورون, وأنكره المأجورون. وما أشرنا إليه دليل على تداخل الحضارات, وتقارضها, وتفاعلها. ومن تصور نفسه على غير ذلك, فقد أضر بحضارته وبغيرها, وما أصاب الأمة من الانكماش أو الضياع إلا الاحتباس أو الاندفاع غير المبررين.
والذين ينقمون على حضارتهم, ويباهون بالآخر, ويبشرون به, ويقدمون بين يدي تبشيرهم التقليل من شأن موروثهم, لا يزيدون راهنهم إلا ارتكاساً في حمأة التبعية, وتعميقاً للخلاف. وهؤلاء القوم إما مخدوعون, أو مواطئون, أو جهلة بنواقض الحضارات, وأصول المبادئ, وحدود الحريات. والتاريخ الحديث تشف صفحاته عن مفكرين وأدباء وعلماء منهم الصالحون, ومنهم دون ذلك, ومنهم الذين مردوا على الوقيعة ممن يعرفهم الراصدون للحراك الفكري والسياسي والثقافي. وهل يخفى على المتتبع الحصيف ما تتجرعه الأمة من البأس الشديد بين أبنائها, وما يصنع فيها ولها من لعب؟. وإشكالية المشاهد جهل الحدود وأمداء القبول بالآخر ومفهوم الوسطية والتسامح والحقوق.
وما أحوج الأمة في ظروف التخطف إلى من يقسم بالله على الوفاء والولاء للعقيدة بمثل قسم الرسول صلى الله عليه وسلم, حين عرضت عليه الدنيا ليتخلى عن رسالته. والمتعمدون لتوهين مفردات الحضارة الإسلامية لا يجدون حرجاً من جر الأقدام بأي ثمن, وعبر أي وسيلة. وضعفاء النفوس يتهافتون على شهوات الغرائز أو على شهوات الرغائب. وكل مدع للمعرفة مباه بالابتعاث غير مبلغ عن حضارته ولو آية مأخوذ من مأمنه أو من شهواته. وما اخترقت التحصينات إلا بمن غلبت عليهم شهوات المتع أو أضواء الشهرة. وما من لعبة مضرة إلا ولها كتّابها المأجورون أو المخدوعون.
فالألسنة والأقلام ليست بأقل أثراً من القاذفات والراجمات, ومن استخف بالكلمة, وقع في الحبائل. والمواجهة بين الحضارات لا تعتمد المناجزة والحسم بالسلاح, إن هناك سياسة النفس الطويل المتمثلة بالتحيز والتحرف والتقدير والتوقيت والترغيب والترهيب والغزو والتآمر والتماكر والتشكيك. وليس بغريب أن يواجه المسلم كل هذه الخطط, سواء نهض بها المستشرقون أو ناب عنهم المستغربون, وسواء تولت أمرها المحافل الماسونية او الصهيونية أو السياسية, وليس شرطاً أن يكون كل حائد عن جادة الصواب من هؤلاء, ذلك أن المفاهيم والاستعدادات تختلف من مفكر إلى آخر, والغزو والتآمر لا يبرئان من المسؤولية وقابلية الاستعمار.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة نحن أحوج ما نكون إلى الوسطية والتوازن والدفع بالتي هي أحسن, وتفادي سوء النوايا والأثرة, وأحوج ما نكون إلى استبدال الصدام بالحوار. فالعالم المادي يحكم قبضته على الضعفاء بآلته النافذة ومؤسساته الثابتة, ومن قلل من أهمية علمه أو من أسلوب مؤسساته الدستورية والتشريعية والتنفيذية, فقد ضلّ الطريق , وأطال أمد تخلفه. وإذا كان الغرب ينطوي على مثمنات ومناهج وآليات وأنماط حياة هي ضالة المسلم, فإن على قادة الفكر العمل على تمثل الحسن منها دون استهجان للذات, أو تعقب لعثرات الدعاة والمصلحين, ودون تفكير بحسم الاختلاف المشروع, والهم الإسلامي على أي مستوى لا يقتضي المنابذة ولا الصدام ولا تعمد الإفساد. وواجبنا أن نحاور ما أمكن الحوار, وأن نتفاعل ما أمكن التفاعل, وأن نستفيد ما أمكنت الاستفادة. وليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الآخر بالذهاب إليه أو باستقدامه. والمسلم البصير بمقدوره ان يتعلم على أساطين الكفر ما يحتاج إليه الإسلام, دون أن يمس ذلك عقيدته أو يخل بولائه, أو يفسد أخلاقه, وما أضر بالأمة إلا القطيعة المطلقة أو الارتماء المطلق. وإشكالية المشاهد الفكرية والأدبية أنها أوزاع بين متهافتين أو متصومعين, ولما ينبري من يجمع بين الحسنيين: يلتزم الثوابت الإسلامية, ويستفيد من منجز الآخر. والإسلام دين الحضارة والمدنية, دين العلم والفكر, دين العمل والعبادة, فمن ظنه غير ذلك فقد أساء إلى نفسه وإلى أمته.
أقول قولي هذا وأنا أستعرض ما يمكن ان أسميه مشروعاً أدبياً تبنّاه الاستاذ الدكتور (عبدالعزيز حموده) من خلال ثلاثة كتب, أثارت حفائظ البعض وضيقت الخناق عليهم وأفقدتهم صوابهم, وجاء معه أو من بعده الأستاذ الدكتور (سعد البازعي) يحمل ذات الهم وذات النفس وذات الإمكانيات في كتابه (استقبال الآخر الغرب في النقد العربي الحديث) والمؤلف يستخدم دلالة (الاستقبال) في التلقي والتوجه, كما استقبال القبلة, ولعله يقصد الدلالة الأكثر مؤاخذة. وجميل من استاذ درس في الغرب أن يبتدر الأخذ بحجز المتهافتين عليه دون وعي, وجميل من نقاد متخصصين ومتمرسين يرصدون للتحولات والانتكاسات والتهافت بمصداقية واقتدار, ويقدمون أنجع الحلول للخلاص من التهلكة. والمؤلم ان مثل هؤلاء يزور عنهم المتابعون, ويمر بهم الإعلاميون مرور الكرام, فيما تبتدر وسائل الإعلام المخفين. والمثير أن المخفين أسرع وأشيع, على حد مقولة (المتنبي) عن الجيش والقتام, ولهذا تراهم الأكثر حضوراً والأكثر تأثيراً, وما ذاك إلا لأن بضاعتهم أشبه باللغط الإعلامي الذي يروق للدهماء. ولقد يخرج إلى الناس كتاب لا يقول شيئاً ذا بال, ثم تراهم يتسابقون عليه. والفاجعة ليست في خلو الكتاب من الجدوى, ولكنها في خلو أدمغة الدهماء, ووجود من يغرر بهم. وإشكالية العزوف ليست قصراً على من نمضي معهم, وإنما تمس من نختلف معهم, ممن نحترم التكثيف المعرفي والدقة المنهجية في أطروحاتهم, وسنعرض لبعض أولئك, لإثبات أننا مع الحق, وإن كان مع من نختلف معه.
والدكتور (سعد البازعي) الذي يعبر كتابه الساحة دونما صخب يعرض لإشكالية عصية, هي إشكالية التواصل مع الغرب في النقد الأدبي الحديث خاصة. وإن كانت الإشكاليات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية أشد خطورة وأعمق تأثيراً. واشتغاله في هذا الجانب المهم جعله يتتبع حركة النقد العربي من خلال تواصلها مع المناهج الغربية, وموقف النقاد العرب منها: تبنياً او رفضاً أو تأصيلاً. وقد مسح البحث فترة زمنية تبدأ بمرحلة التأسيس أو بدايات الاستقبال, وتنتهي بمرحلة التأصيل. وفي هذا المسار اكتفى ببعض المناهج الأكثر شهرة ك(الرومانسية) و(الواقعية) و(الشكلانية) و(البنيوية) و(التقويضية) مغفلاً الفلسفات التي تأسست في ظلها هذه المناهج وغيرها ك(الوجودية) و(المادية) و(التاريخانية) وما انبثق عنها من مناهج ونظريات نقدية عديدة. لقد اتيحت لي قراءة الكتاب مع طائفة من الزملاء, وكنت أكثرهم احتفاء به, واكثرهم تحفظاً على بعض رؤاه, ولقد أحسسنا معاً بتعالقه مع مشروع الدكتور (عبدالعزيز حموده) وهو تعالق لا يمت بصلة إلى التناص أو الاستلاب, بل أكاد أجزم أنه لم يرجع إلى أطروحات (حموده), ولكن الهم المشترك أوجد التجانس.
والدارس يفترض سؤالاً عن كيفية استقبال الآخر, ويتخذ موقفاً نقدياً محدداً ومبرراً من سائر النقاد, فمنهم المتخذ للمناهج الغربية على علاتها, نتيجة انبهار وتسليم كلي, ويصدق على هذه الفئة اتخاذ الغرب قبلة. ومنهم المؤصّل الذي يدعو إلى التمحيص والتصفية, بحيث يتفاعل ولا ينفعل, فيما أغفل المؤلف موقف المتلقي الثالث الرافض لكل ما يأتي من الغرب, وإن كانت له أصوله في التراث العربي, ومتضمناً في نظريات النقد الغربي الحديث. فالمناهج والنظريات لم تأت طفرة, وليس هناك أمة أحق بها من غيرها, لأن التفاعلات الحضارية وما صاحبها من صراع فكري وسياسي و(أيديولوجي) وثقافي أو مثاقفة لم تتم بمعزل عن الملابسات التاريخية.
والباحث يراوح بين اجراءات الاستقبال والمثقافة, فالاستقبال يعني خلو المتلقي من رصيد معرفي نقدي مواز لرصيد الآخر, وبالتالي يصبح تابعاً او مقلداً, في حين تعني (المثاقفة) موازنة الوافد على ضوء الموروث, وفتح حوار بين ندين متساويين فكراً وحضارة. وذلك ما يفقده المستغربون الذين يراهنون على جياد (الحداثة) و(الفرانكفونية) و(الاستغراب).
الباحث يرى أنه ليس هناك خصوصيات محضة في نشأة المناهج النقدية الغربية انطلاقاً من التفاعلات التاريخية بين الحضارات المتتالية, وما أفاده الغربيون من الحضارة العربية الاسلامية في الفلسفة والفكر العلمي، ولقد أومأ (العقاد) إلى ذلك في كتاب مقارن ألمح فيه إلى التعالق الفني ونقده.
والباحث ضرب مثلاً بمنهج الشك الديكارتي, وكيف ابتدعه (ديكارت), ثم طوره (هوسرل) في منهجه الظاهراتي, وهذا المنهج له جذور تاريخية في الدراسات العربية, يراها البعض عند (أبي حامد الغزالي) في عنصرين: عنصر اليقين في الثوابت, وعنصر الشك في المتغيرات. وقد نقله إلى أوروبا خلال القرن الثاني عشر المستشرق (أدلر أوف) بعنصر واحد هو عنصر الشك, بوصفه باحثاً غير ملتزم باليقينيات الدينية كما هو الشأن لدى المسلمين. ولما جاء (طه حسين) حاول تطبيقه في دراسته للشعر الجاهلي بعنصر واحد أيضاً, مغفلاً العنصر اليقيني في الثوابت القرآنية, ولم يراع سياقه وملابساته التاريخية, ومن هنا جاءت خطيئته القاصمة التي أدت إلى محاكمته وإدانته.
وتمتد رؤية الباحث إلى التيار الواقعي بوصفه أدباً, وهذا يحفز إلى استشعار واقعيات: فنية واشتراكية ومادية ووجودية... ولعل إغفال هذا التمييز هو ما حدا ببعض النقاد العرب مثل (محمد مندور) كي يجعل الواقعية مرادفة للأدب الملتزم أو الأدب المسؤول.
والدارس يرى أن البنيوية تفرعت من (الشكلانية) و(الواقعية), ولم يشر إلى دواعي ظهور (الشكلانية) وملابسات إعادتها إلى بيت الطاعة (الماركسية) تحت مفهوم (التكوينية). والباحث يعود محدداً عمومية الرؤية أو مناقضاً لها بالقول عن تلبسها بأحد التيارات أو طرق التفكير. و(التفرع) و(التلبس) متباينان. كنت أود لو أسس لبحثه بمقدمة عن الجذور الفلسفية للبنيوية بأبعد مما ذهب إليه (فؤاد زكريا), ثم هو يعدها منهجاً تحليلياً, وهي كذلك, ولكن التحليلية ليست من خصوصيتها, فالبنيوية صفة نص تستدعي آلية ومنهجية تفكك النص, وحتى كلمة (تفكيك) تكون إجراء, وتكون رؤية, وإشكالية المشتغلين عدم التمييز بين الرؤية والإجراء, وهذا ما أشار إليه الباحث, وهو يتحدث عن (التفكيكية), ولأهمية هذا الكتاب وحاجة المشهد إلى مثله فسوف تكون لي عودة تفصيلية لبعض وجوهه, وبخاصة عند حديثه عن (البنيوية التكوينية).
|