* حاوره - حسن محني الشهري:
فضيلة الدكتور الشيخ عائض القرني أحد أبرز الدعاة في بلادنا للخير والصلاح، الذين يحملون شعلة الوسطية المضيئة الداعية للخير النابذة للشر، فهو الذي قام - ولا يزال - بدور في إيضاح الكثير من الأمور التي التبست على الكثيرين إزاء فتنة الفئة الضالة من خلال محاضراته ومداخلاته وندواته الإصلاحية التوعوية، التي يوضح من خلالها وسطية الإسلام الداعي للخير والسلام الذي يقبل الآخر ويحترمه دونما دعوة لعنف وبطش وقتل ودماء.
ولأن الشيخ الدكتور عائض القرني كان ممن أوكلت لهم مهمة الالتقاء مع الشيوخ العائدين إلى قافلة التائبين المعترفين بخطئهم الفادح في تحريض بعض الشباب على حمل السلاح وقتل الآمنين وترويعهم من خلال لقاءات تلفزيونية تمت في شهر رمضان الماضي، فإنه ومن خلال سلسلة محاضراته تجاه أفراد الفئة الضالة عن طريق الصواب لا يزال يوجه محاضراته لاستغلال فرصة المهلة التي أعطاها خادم الحرمين الشريفين لأفراد هذه الفئة للعودة والتوبة، فهي كما يقول فضيلته فرصة لا تقدر بثمن للعودة إلى كنف المجتمع الآمن والاستفادة من فترة العفو التي بدأ فيها بعض هؤلاء بتسليم أنفسهم.
حول هذه القضية التقيت الدكتور الشيخ عايض القرني في هذا الحوار، الذي تحدث فيه للجزيرة عن العفو وأهمية استغلاله والنجاة من العقاب.
فتح القلوب.. لا تثريب عليكم
* هذه الأيام، نرى بعض الفئات من أبنائنا وقد أخذهم الإثم وارتكبوا بعض الأخطاء في أنفسهم وفي حق دينهم ومجتمعهم، ويوجد نداء من أولياء الأمور والمسئولين بإعطاء الفرصة لهم والمسامحة التي هي أصل من أصول ديننا، كيف نرى بعضاً من هذا العفو في القرآن الكريم؟
- العفو والمسامحة أصل من أصول الدين الإسلامي وفي قصص كثيرة من الأنبياء، وخاصة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك والحق عز وجل يطلب من عباده أن يستغفروه ليغفر لهم، وآيات كثيرة تدل على الرحمة والمغفرة وإلى العفو عن كل إساءة، وفي آيات كثيرة طلب العفو عما سلف، ومن القصص الشهيرة في العفو وجاء ذكرها في القرآن الكريم هي قصة سيدنا يوسف عليه السلام، ماذا قال لاخوته بعد كل الذي فعلوه من كذب وتفريق جمع الأسرة وغياب الأخ وحزن الأب والغربة والهم والحزن، بعد كل هذا يقول لهم سيدنا يوسف بعد لقائه بهم: { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (92) سورة يوسف، وقبل ذلك قال إخوته: { قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } (91) سورة يوسف.
وقد رد يوسف ما حدث بينه وبين اخوته إلى الشيطان، ولم يقل إنهم السبب فقال: { وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (100) سورة يوسف، إذن العفو أحد رموز قصة سيدنا يوسف عليه السلام.
فتح مكة.. العفو الأخير
* هل تذكر لنا مثلاً من حياة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
- الرسول صلى الله عليه وسلم معظم حياته مملوءة بقصص العفو، ومن أشهر تلك القصص ما حدث في عفو مكة الشهير أي بعد دخول مكة وفتحها، ووقف الجميع من أهل مكة يتوقعون أن تقطع رؤوسهم وكان من بينهم أبو سفيان والكثير من زعماء قريش أرادوا الهروب من وجه جيش الرسول صلى الله عليه وسلم توقعاً للأذى، ولكن سيدنا علي بن أبي طالب كان يقول لهم: (أنتم لا تعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم، إنه خير من يعفو) وأبو سفيان ذهب للرسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وسلم عليه، ورد الرسول الكريم تحيته وقال له الرسول من ضمن أقواله: (لا تثريب عليكم اليوم) ويبكي أبو سفيان ويقول ما أبرَّك ما أرحمك ما أوصلك.
* هل هناك آية كريمة تحث على العفو والمساحة؟
- نعم هناك آية تقول: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }، قال أهل العلم: إن العفو والمسامحة يمران بثلاث مراحل الإحسان والكظم والعفو، والمقصود بالثلاث مراحل أن بعض الناس من الممكن أن يقوم بمرحلة ولا يأتي بالثانية أو الثالثة، فهناك من يكظم غيظه ولا يستطيع العفو، وهكذا العفو عن الناس من أرقى المراتب وأرفعها.
صحابي يعفو بعرضه
* هل هناك صور للعفو غير العفو المعروف وهو المسامحة فقط؟
- هناك قصة طويلة وجميلة وهي قصة العفو بالعرض، توضح أن للعفو أشكالاً مختلفة، فأحد الصحابة الكرام في إحدى الغزوات لم يجد شيئاً يتصدق به أو يخرج به مع الغزوة فماذا فعل، أخذ يدعو الله ويقول يالله إني أعفو عن كل ما أساء إليّ في مالي أو نفسي أو سبَّني أو شتمني أو خاض في عرضي، ولذلك ينادي الحق عز وجل يقوم القيامة ويقول: ( أين العافون عن الناس، لان لهم منزلة كبيرة يوم القيامة).
أجور العفو
* إذا عفا الإنسان عن أخيه، فما هو اجره عند الله؟
- اجره كبير جداً وغير محدد، لأن الله جعل لكل شئ أجرا محددا، ولكن العفو جعل أجره عليه يقول الحق عز وجل: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وإذا وقع الأجر على الله فيكون الأجر كبيراً جداً، فمهما نتوقع فأجر العفو على الله سيكون أكبر من المتوقع لأن الله هو الذي قال ذلك، فكم من بركة وكم من أجر للعافين.
* هل هناك آيات أخرى؟
- نعم، هناك آية قال أهل العلم إنها أصل الآيات التي تدعو إلى الأخلاق الكريمة وهذه الآية هي: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (199) سورة الأعراف، والمقصود بالجاهلين هنا هم من أساءوا إلينا.
عفو عمر
* هل هناك قصة من قصص الخلفاء الراشدين توضح عفوهم وكذلك تمسكهم بآيات القرآن الكريم الدالة على المسامحة؟
- في عهد سيدنا عمر بن الخطاب حين كان أميراً للمؤمنين جاءه أحد زعماء القبائل وكان مغتاظاً من عمر لانه يسوي بين الناس، وكان يعتقد هو أنه يحب أن يكون لشيوخ القبائل مكانه خاصة، حيث كان حديث عهد بالإسلام وله مقاييسه الدنيوية في التعامل مع الناس التي تختلف عن مقاييس سيدنا عمر رضي الله عنه، وهو الذي يقيس بمقاييس (الكتاب والسنة الشريفة)، ومن شدة غيظ هذا الرجل انفعل وقال لسيدنا عمر: (إنك لم تقسم بالسوية) أي أنه غير عادل، وهم سيدنا عمر بضربه ولكن أحد الصحابة قال له: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }، فتوقف سيدنا عمر من فوره وكان وقافاً من حدود كتاب الله.
وقصة الإفك التي جاء فيها تبرئة من الله عز وجل للسيدة عائشة، وحين سمع سيدنا أبو بكر بمن خاض في القصة قال سأضع عنهم ما كنت أعطيه، وهنا نزلت آيات كريمة تحث على العفو والصفح والغفران، فتراجع سيدنا أبو بكر من فوره.
الغفران في الأحاديث
* ماذا عن ورود أحاديث شريفة في الغفران والعفو؟
- الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تحدث في ذلك كثيراً، ومن بعض تلك الأحاديث والتي صححها الألباني ( من غفر يُغْفَر له، ومن يعفو يُعْفَ عنه)، وفي قصص كثيرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن يخطىء تجاوزا عنه.
وفي قصة تخبر انه يوم القيامة يأتي بعض الأشخاص ليتجاوزوا عن شخص ولكن الله يقول انه سيتجاوز عنه ويدخله الجنة، وهناك قصة عن الشاعر المعروف كعب بن زهير الذي بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفا عنه فجاء إليه في المسجد، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من أنت ؟ قال كعب بن زهير وأخذ ينشد قصيدته المعروفة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول، إلى أن وصل لقوله:
أُنْبِئْتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني
والعفو عند رسولِ الله مأمولُ
فأهداه النبي صلى الله عليه وسلم بردته، التي أخذها معاوية ثم انتقلت للملوك من بني أمية وبني العباس إلى الملوك والعثمانيين.
* هل كان في صفات رسول صلى الله عليه وسلم الخارجية ما يدل على العفو والمسامحة؟
- نعم، كان الصحابة - رضوان الله عليهم - حين يصفونه يقولون: (كان ظاهر البشاشة، بادي السماحة) حتى في الشكل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الغفران، والله يقول أيضاً في كتابه: { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }، وحينما جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه مدحاً كثيراً قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أيها الناس إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله) فجعل العبودية أرفع المراتب.
رسالة من ولي الأمر للعفو
* وصلت رسالة بالعفو من ولي الأمر، ماذا تقول في ذلك؟
- العفو هنا عفو عن قدرة ويدل على سداد الرأي والحكمة، وفي كتاب الله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فإن شاء الله يكون هدفهم واجرهم على الله، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما زاد العفو إلا عزا)، وهذه فرصة سانحة لان العبد قد يمر بفترة تغرير خاصة من الشباب وحديثي السن، وهي فرصة لمن يريد أن يحاسب نفسه فالأبواب مفتوحة، والحوار مفتوح، وهذه فرصة لمن ترك جماعة المسلمين وأمته لأن يد الله مع الجماعة، ويقول أحد الرجال: (أما العقوبة فكلنا نحسنها، أما العفو فلا يستطيعه إلا العظماء)، والعفو يرد الفرص التي يتحجج بها بعض الناس، فالكثير من المخطئين أو الناس العاديين يقولون، لم نجد وجهاً من أحد ولم يسمعنا أحد، ولم يجيبنا أحد، ولم يعطونا فرصة، وهذه هي الفرصة والدخول في الجماعة وانتم أبناؤنا وسنسمع لكم وعفا الله عما سلف، والعفو عند أهل العلم هو العظمة والتسامح والقدرة، فلا يعفو إلا عظيم، والكريم لا يأخذ حقه بل ينقص منه، والإمام محمد بن عبد الوهاب كان يعفو عن الكثير، ونحن نعفو عن الكثير من المخطئين لان منهم صغار السن والمحدثين والمغرر بهم والكريم من طبعه العفو، والرحمة هي القرب من الناس والعفو عنهم، والراحمون يرحمهم الرحمن، والرحمة هي أول ما يقال في الفاتحة والصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبِّل الحسن والحسين، حتى جاء الأقرع بن حابس وشاهد ذلك فقال والله عندي عشرة أولاد ما قبَّلت احداً منهم. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما افعل إن كان الله قد نزع من قلبك الرحمة)، وأنا أقول لهؤلاء لماذا مخاصمة ومعاداة الأخيار والعلماء والأمة؟ وهذه فرصة الرجوع عن الخطأ، فليس هناك خوف من جبروت وانتقام من أي أحد، فإن الرجوع عن الخطأ أولى، لان هناك من قام بالتحية فعليك بالرد عليها أو احسن منها، واقول لقد ظهرت الحجة ولا تقول لو سلمت نفسي سيعذبونني نقول لك: لا تخف، من داخل باب داره فهو آمن. ونحن سنشهد معه عند ولي الأمر وسننهي الموضوع، وواجب على ولي الأمر الرفق لأن البعض مغرر به أو تغلبه الشهوة.
* هل هناك نماذج من العصر الحديث لعفو الحكام؟
أقول الملك عبد العزيز - رحمه الله - كان من العافين، وقد عفا عن بعض الأشخاص اكثر من ثلاث مرات.
وسيدنا معاوية كان مشهورا بالحِلْم، وعبد الله بن الزبير أرسل له خطابا شديد اللهجة لان عماله يدخلون مزرعته بدون إذن، فنصح معاويةَ بعضُ جلسائه بإرسال جيش لابن الزبير، ولكن معاوية أرسل له خطابا بأن يعطيه المزرعة هدية له فبكى عبد الله بن الزبير.
وهناك عاصم بن قيس قُتِل ابنه قتله بعض أقاربه، وكان في مجلسه فلم يقم وارسل لزوجته دية ابنها لانها كانت غريبة عن القبيلة.
إذن فالعفو جاء من ولي الأمر وهذا أمر جيد، وعلى الآخرين التفكير والرجوع سريعاً لحظيرة الملة ولمِّ شمل الجماعة والله يهدينا جميعاً.
| 
"محليــات"