كنت أحرصُ على القدوم مبكراً إلى ساحة (البحار) التي تُطلّ عليها المدرسةُ السعوديةُ كيْ أشاهدَ التمارينَ العسكريةَ لشُرطة أبها ترافقُها أنْغامُ الموسيقى تنتظمُ على إيقاعها خطواتُ الجنود في تشكيلاتٍ جميلة، وأظلّ أراقبُ عن بُعد (العرضَ العسكري)، في حين تلهو قدماي بالحركة انسجاماً مع (الأنغام) العسكرية! حتى إذا فتح العمّ (فقعوس) حارسُ المدرسة أبوابها، هرعتُ إليها ومنْ معي من التلاميذ الآخرين نسابقُ الريح قبل موعد قدوم العمّ عبدالرحمن المطوع، ممتطياً صهوةَ حماره الشهير، فإذا استوينا على الأرض (المؤثثة) بالبساط المصنوع من سعف النخل، دخل استأذنا العمَّ عبدالرحمن رحمه الله متكئاً على عصَاه، وأخذ مكانه على المنصة المجاورة ل(السبورة)، ليبدأَ الدرسَ الأولَ بما يشبه النغمَ الجماعيَّ (الأوبرالي): (ألفْ لا شيء عليه، (باء) نقطة من تحت، (ت) نقطتان من فوق.. (ثاء) ثلاث نقاط من فوق.. (جيم) نقطة من تحت) وهكذا، حتى ننهيَ حروفُ الهجاء، تلي ذلك تلاواتٌ جماعيةُ من جزء (عمّا) نرددها مع العمّ عبدالرحمن، ولن أنسى ما حييتُ (لحظات الرعب) التي كانت تجتاحني كلما وقفتُ بالقرب من (السبورة) بجوار العم عبدالرحمن، وعينايَ مشدودتان منقسمتان بين الحروف المرسومة أمامي وعصَا الأستاذ، ونتيجة ذلك، لم يكنْ لي مفرٌ من الخطأ.. ثم العصا عقاباً، وكنا نترقبُ في لهفةٍ صوت الصفارة إيذاناً بانتهاء اليوم الدراسي، في الوقت الذي نتنافسُ فيه أمام الأستاذ طمعاً في أن يحظى أحدنا (بشرف التكليف) لجلب حمار الشيخ كي يمتطيه عائداً إلى منزله!
**
ولقد كان معلمنا الشيخ عبدالرحمن رحمه الله شديدَ الحرص على الأداء الجيد داخل الفصل، وإلاّ، فالعصَا لمن أخطأ أو أهمل أو تشاغلَ بالحديث مع جاره من الأطفال، وكان يستخدمُ عصاً طويلةً جداً وأخرى قصيرة من الخيزران تمكنانه من تأديب المشاغب أو المقصِّر في الدرس سواء كان في أقصى القاعة أو أدناها، وأحياناً كان رحمه الله يغادر منصته ويتجول بين صفوفنا حبواً، فترتعدُ الفرائصُ الصغيرةُ خوفاً منه، وتُحلِّق الأبصار يمنةً ويسرةً خوفاً من (الخطر) الجاثم على الأنفاس) وكان أحدنا من فرط خوفه لا يدري أيركز على ما في (السبورة) أمامه، أم يأخذ حذره من لسعات أظافر (المطوّع) الحادة في فخذه أو إبطه! ولم يكن يسترُ الأبدان الرقيقة في ذلك الوقت سوى الثوب.. ولا شيء سواه!
**
وهناك مواقف أخرى ارتبطت في ذهني بالمدرسة السعودية، اخترتُ منها الموقفين التاليين:
* الموقف الأول:
كنتُ في حوالي الخامسة من العمر أعيشُ في كنف والديّ، طيب الله ثراهما، في منزل مهيب بمقاييس ذلك الزمن يُطلُّ على ساحة السوق العام في أبها، ولم أكن وقتئذٍ أعرفُ ألفاً ولا ياءً، وذات يوم داهمتني نوبةُ من البكاء، لا أذكرُ لها سبباً، حتى ضاقَ بي الولدان رحمهما الله ذرعاً، فطلب سيدي الوالد من صديق الأسرة، العم عبدالله بن محمد بن عزيز، أمدَّ الله في عمره، وكان يومئذٍ طالباً في الصف الخامس الابتدائي بالمدرسة السعودية - طلبَ منه أن يصطحبني معه إلى تلك المدرسة عليّ أسلوَ أو أنسى سببَ بكائي ففعل، ودخلتُ معه إلى المدرسة السعودية لأول مرةٍ في حياتي وأنا مبهورُ النفس والأنفاس، وكأنني في أحد أبراج (هارفرد) أو ال(إم آي تي)!
وصعدنا إلى الطابق الثاني منها، وجلستُ إلى جانبه على الأرض، وكأنّ على رأسي سرباً من الطير، ورحتُ أتابعُ في عجب وقائعَ الدرس وأنا لا أفقه مما قيل أو كُتبَ شيئاً، وانتهتْ الحصةُ، وهمستُ للعم عبدالله برغبتي في العودة برفقته إلى والدي بعد أن غَشَتْني وحشةُ الزمان والمكان والموقف، فوافق، ثم حَدَث وأنا أعبر السلمَ معه هبوطاً إلى الطابق الأرضي من المدرسة، أن اخترقت صدري آهة عميقة، لم تغبْ عن سمع مرافقي، فسألني وهو يغالب دهشته ويشد على كفي النحيل، (لماذا هذه (الزفرة) يا عبدالرحمن، فيم تفكر؟)، فقلت له في الحال متسائلاً بهذا المعني: (الله وحده يعلمُ إن كنتُ سأعيشُ حتى أبلغ ما بلغته أنتَ في هذه المدرسة!) واستقبلَ مرافقي (زفرتي) وتسَاؤلي بابتسامةٍ مغدقةٍ بالحنان، ثم تابع يقول: (إن شاء الله تكبر يا عبدالرحمن وتدرس وتبلغ ما تريد) وكانت كلماتُه تلك نفحةَ أملٍ أعادتْ شمسَ الابتسامة إلى وجهي الذابل!
* الموقف الثاني:
كنتُ أصيلَ ذاتَ يومٍ أعمل في بُستَان جدي حين همز لي إبليسُ الطفولة أن أهدي أستاذي العم عبدالرحمن في صباح اليوم التالي (باقةً) من أغصان الرمان، بعد تقليهما وصقلها ب(شفرة) جدي الحادة، لتكون عوناً له على ضبط سلوك زملائي التلاميذ، ولم أترددْ لحظةً في تنفيذ الفكرة، وحملت (عصيَّ الرمان) في الصباح الباكر إلى ساحة (البحار) في أبها وأنا أباهي بها، والكل ينظر إليَ في عجب، وأنا أعبر الطريق مسرعاً إلى مقر المدرسة، وكنتُ أظن أنني سأكسبُ من خلالها (زُلفى) لدى أستاذي العم عبدالرحمن، فلا يقسو عليّ بالضرب، لكن فضول زملاء الدراسة وألسنتَهم الحدادَ ظلّتْ تلاحقُني ذلك الصباح استنكاراً ل(هديتي) المشبوهة، فلم أُعرْهُم بالاً، ودخلتُ الفصل أحملُ هديتي، وقدّمتُها للعم عبدالرحمن بعد أن استوى على منصته، فعاجلني بالسؤال التالي: (لمن هذه ولماذا؟) فقلت وأنا أكتم ابتسامة حبُور يخالطُها شيءٌ من وَجَل: (هذه لك يا أستاذ هدية من بستان جدي)، فما كان منه إلاّ أن سَحَب واحدةً منها على الفور وهوى بها على ظهري النحيل مرةً أو مرتين وهو يَغْتَصِبُ ابتسامةً مقتضبةً، وقد تأوهتُ ألماً، لكن (شماتة) الزملاء بي وضحكاتهم المكتومة غبطةً بما صنع بي أستاذُنا الشيخ كانت أشدَّ إيلاماً! ولعنتُ في تلك اللحظة إبليسَ مائةَ ألف مرة!
خاتمة:
لقد أطلتُ الحديثَ عن (بانوراما) الذكريات التي تربطني، عقلاً ووجداناً بالمدرسة السعودية في أبها، لأن تلك المدرسةَ كانتُ علامةً فارقةً في مشوار حياتي، رغم أنني لم أمض بها زمناً طويلاً، ولقد أرغمني أوضارُ المشوار اليومي بين مشيّع وأبها وحيداً وسط هَوَام الجبال ووحشتها وأشباح كلابها، ناهيك عن الأذى النفسي والجسدي الذي كنتُ أعانيه داخل الفصل - أرغَمتْني في وقتٍ لاحقٍ على هَجْر المدرسة (لأَنْعمَ) برفقة غنم جدي راعياً وسط التلال المجاورة لمنزله وكنتُ في خلواتي اليومية مع الغنم، أقرأُ القرآنَ الكريم وأرسمُ نقوشاً على الورق تُشْبهُ الرسائل الذاتيةَ، ولعلّ هذه كانت البذرةَ الأولى ل(مشروع) الكاتب عبدالرحمن السدحان.
|