تتجلى روعة الإيمان، والحكمة والصبر والجلد والقوّة، وسعة الصدر والرحمة إذا جاءت في وقتها.. وفي موسم الحاجة إليها.. بل إنها حينئذ تتحول إلى إحسان.. والإحسان قدر زائد على العدل، قال عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وعلى هذا يؤكد مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز (حفظه الله) في الكلمة التي ألقاها نيابة عنه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني حرص المملكة على بسط الأمن والأمان، وحقن الدماء البريئة، وفتح باب التوبة لكل من ضلّل وغرر به كي يعود إلى جادة الرشد.
قال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}
وهو موقف يعبِّر عن أقصى درجات القوة، إذ لا يمكن لعاقل أن يتصور بأن دولة قوية برجالها وجيشها وإمكاناتها وإيمانها يمكن أن تهتزّ أمام حفنة من الرعاع، وهي قادرة على تصفيتهم بل وسحقهم، لكن من هدى الله قلوبهم للإيمان يفتحون أبواب التوبة ويقيمون وشائج اللحمة بين الشعب ويؤكدون للقاصي والداني عظمة ديننا وأخلاقنا وقيمنا ومبادئنا ويطبّقون حقيقة لا بالشعارات أن (العفو عند المقدرة).
هي فرصة نادرة يجب على كل من يملك ذرّة من عقل أن يغتنمها كي يعود إلى بيته وحياته ودينه ومجتمعه أميناً آمناً على نفسه وحياته ويسعى كي ينال توبة من الله {إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ومما لا شك فيه بأن هذا العفو الخاص والاستثنائي بمدلولاته التي تفيض بالخير والحكمة عن الفئة التي حملت السلاح في وجه الدولة والشعب، جاء في وقته تماماً، ولذا استقبل العالم بأسره خطاب المليك المفدى الذي تلاه ولي عهده الأمين عبر وسائل الإعلام، بغبطة وسرور، وأفردت له وسائل الإعلام العالمية مساحات واسعة برغم المرارة المؤلمة التي خلّفتها أحداث الأيام الحالكة، والتي أشعل فتيلها أولئك المضللون لغاية العبث بنعمة الأمن، مدفوعين برغبات خبيثة خارجية، هم بكل اللغات أعداء الحق والدين والإنسانية.
كلمات طيبة من أسرة طيبة أسبغت ريحها الطيب في قلوب الناس كافة، المواطن والمقيم والغيور على مصلحة البلد والأمين على أرواح الناس برداً وسلاماً، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشدد عليهم فاشدد عليه).
وأكدت الكلمة السامية أن حلم القيادة أكبر من تصرفات الفئة التي ظلمت نفسها، ولذا فتحت باب التوبة على مصراعيه لكل من ارتكب جرماً في حق الوطن، ثم اعترف بذنبه وأيقن أنه لا منجى له من العدالة إلا بتسليم نفسه لجهات الاختصاص حتى يحتكم الناس جميعاً إلى شرع الله الحنيف الذي حاشا أن يظلم احداً، وهو الدين الحنيف الذي وضع الضوابط والشروط في مسألة قتال الكافرين ولم يترك الأمر هكذا للأهواء وشهوات النفوس وابتكارات العقل القاصر مهما بلغ من العلم مكاناً عليا.
لقد ركزت كلمة خادم الحرمين الشريفين على مضامين نبيلة وسامية وفي ذات الوقت اتسمت بحكمة المعالجة وإظهار الحزم والعزم لمن لم يدخل باب التوبة والعزم قوة لمن أدرك الفهم والحكمة يعقبه التوكل على الله {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} ، ونرجوه تعالى أن يحقق الرجاء وببسط الأمن ويهدي القلوب ويهدىء النفوس لما فيه خير الوطن والمواطن.
لقد جاء عفو القيادة عن الخوارج من منطلق قوة ورحمة وحكمة وإحسان تحقيقاً لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
فقد جاء في كلمة المليك المفدى: (أيها الإخوة المواطنون.. لقد قامت دولتنا الرشيدة على إعلاء كلمة التوحيد خفاقة في كل فؤاد وفوق كل هامة مدركة أن وحدة هذا الوطن لم تأتِ من فراغ بل جاءت بكفاح الرجال الشرفاء خلف قائدهم المؤسس الملك عبدالعزيز، (رحمهم الله جميعاً)، الكل يعلم أننا لا نقول ذلك عن ضعف أو وهن ولكنه الخيار لهؤلاء ولكي نُعذر حكومة وشعباً بأننا عرضنا باب الرجوع والأمان فإن أخذ به عاقل لزمه الأمان وإن كابر فيه مكابر فوالله لن يمنعنا حلمنا عن الضرب بقوتنا التي نستمدها من التوكل على الله جل جلاله.. هذا ونعاهد الله على قوة لا تلين وإرادة لا تعرف التردد بحول الله وقوته).
وماذا كان يتوقع الناس من القيادة الرشيدة أن تفعل بعدما قصمت ظهر الفتنة واجتثت رأس مدعي قيادة الخوارج في جزيرة العرب سوى العفو الشامل عن البقية حقناً لدمائهم وجمعاً لشمل الأمة التي لا ترضى من باب إيمانها بالله وشرعة التوحيد أولاً ثم ما تمليه عليها شيمها العربية الأصيلة بل يحزنها أيّما حزن إراقة الدماء والخراب وهدر المال والعبث بالأمن سواء كانت لعدو أو صديق أو لبريء لا ذنب له سوى أنه كان صدفة في مرمى نيران المتحاربين؟.
نار الفتنة إن استعر أوارها (لا قدّر الله) لن ترحم أو تفرق بين الناس، ويقيننا الذي لا تساوره الشكوك في أن كلمات القيادة الرشيدة تجاوزت وعفت عن كثير من الذين في قلوبهم مرض وانحراف وسقوط في مهاوي الشر والضلال، فهل من قلب يسمع وعقل يفهم لينزع من نفسه الشريرة أدران الانحراف ووساوس الشيطان الرجيم؟.
لو أدرك أولئك الغافلون بأنهم على خطأ بيِّن، ورأي فاسد لا تقره شريعة الإسلام، ولا يقبله منطق أو رأي سديد، فعلى هؤلاء وقد فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة اغتنام الفرصة الذهبية التي لن تتكرر بعد أن فاض كأس الأسى، وعليهم أن يراجعوا مواقفهم ليعودوا إلى منطق الحق والفضيلة، وإنها لعمري مدة عفو كافية تلك التي أعطاها العفو الملكي، فالشهر كفيل بالتفكير الجدِّي الذي لا بد أن ينتهي بعقلائهم إلى تسليم أنفسهم طواعية دون إكراه قبل أن تطالهم المنيّة ويذوقوا من ذات الكأس التي شرب منها غيرهم.
وإنني بهذا أضم صوتي إلى صوت الضمير الحيّ الذي نادى به مولاي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين ورجالات المملكة وأوجِّه نداءً إلى جميع من تورط أو ضلل أو غرر به من تلك الفئة وأقول لهم: والله إنها لفرصة مواتية وعليكم أن تستفيدوا منها فهي الفرصة الأخيرة كي تراجعوا أنفسكم وتحتكموا لشرع الله الحنيف والله غفور رحيم، واحذروا من غضبة الحليم إذا غضب، فقد صبر الناس على أذاكم كثيراً وطويلاً والعاقل من يرعوي من تجارب غيره، وكما تعلمون فإن للصبر حدوداً كما قال سمو سيدي ولي العهد الأمين، ونحمد الله أن قبيل مرور أربع وعشرين ساعة على بدء العدّ التنازلي لفسحة الشهر تقدم (صعبان بن محمد الشهري) لينعم بالعفو الكريم فسلّم نفسه إلى الجهات الأمنية في محافظة النماص وحظي على الأمان الذي تعهّد به المليك المفدى وسمح له بزيارة أهله والبقاء معهم لحين تحديد موعد التحقيق معه فيما نُسب إليه، فلعل هذا يشجع غيره على أن يحذو حذوه.
نرجو الله أن يحفظ البلاد والعباد من كل مكروه وأن يحفظ قيادتنا الرشيدة حتى تدحر آخر ذرّة من ذرّات الفتنة والشر ليعمّ الأمان والأمن على العباد وبلاد الحرمين الشريفين كما عرفها وألفها الناس دائماً بالأمن والأمان.
الرياض - فاكس 014803452
www.nahidanwar.net |