* أتابع بكثير من السرور والابتهاج، ذلك (الحراك) الثقافي الصحوي (الحقيقي)، الذي يقوده ويديره من أبها البهية، صائفة هذا العام، الأمير (خالد الفيصل بن عبدالعزيز)، أمير منطقة عسير، فالمنتديات والمحاضرات الثقافية التي رعاها وشارك وساهم فيها، هي خير دليل على العافية التي - ما زال - يحتفظ بها الخطاب الثقافي السعودي، فيفصح عنها بكل ثقة، كلما رفعت من طريقه الحواجز، فأخذ فرصته المتوجبة، في التعبير عن نفسه، والبدء في إعادة إشعال فتائل الضوء التي خبت وانطفأت، يوم هبت عليها رياح الصحوة الإسلاموية المفتعلة.
* ليست قيادة وإدارة (خالد الفيصل) وحدها، الذي حرك البركة الراكدة في المشهد الثقافي السعودي اليوم، ولكن الطرح الواقعي المقنع للأمير (الشاعر الفنان المفكر)، ساهم في البعث الصحوي الثقافي، الذي نرجو له التطوير المستنير، حتى يتسنم قيادة التنوير من جديد، لأن مشهدنا العام بكله، لا يمكن أن يتحمل المزيد من الإخفاقات والوهن، والأمة ليس بمقدورها مواجهة المزيد من النكسات والإخفاقات والتردي.
* قبل ندوات ومحاضرات ومقابسات صيف عسير، أتحفنا أمير عسير، بأكثر من مقال في السياق الصحوي الثقافي نفسه، كان آخرها مقاله الشهير:(من غيَّب البسمة)..؟!، الذي أتبعه الدكتور (حمزة المزيني) بمقال آخر هو:(انحسر التنوير، مثلما اختفت البسمة في عسير).. والمقالان منشوران في جريدة الوطن، العددان (1352-1364).
* اليوم الأربعاء (7 يوليو 2004م)، أطالع على جريدة الوطن نفسها، مقالاً ذا صلة بموضوع (اختفاء البسمة وانحسار التنوير)، كتبه الدكتور (عبدالرحمن بن عبدالله الواصل)، ومع أن الكاتب الفاضل، يحصر الصورة الحزينة، في محافظته (عنيزة)، إلا أن القارئ الفطن، يعرف جيداً، أن كل المحافظات والمدن، هي في الهم عنيزة..! فالبسمة لم تختف في عسير وحدها، ولكنها تلاشت في عسير وأخواتها، والانحسار التنويري تمطى، ثم تمدد على كل التراب الوطني، حتى كدنا ننسى أو نخشى، مصطلحات من أخوات تنوير مثل: تطوير، تحديث.. إلى آخر السلم المضاء قبل العتمة.
* مقال الدكتور الواصل، فيه طرح صادق ونبيل، حتى لو اتسم بالصدمة المباشرة.. أعتقد أن المرحلة تتطلب مثل هذه الصدمات، لكي نفيق من غفوة مصطلح ما يسمى ب(الصحوة الإسلاموية)، وننفض عنّا غبار الريح المضادة للتنوير والتطوير.. اقرأوا المقال الجميل، وتذكروا جيداً، المشهد الثقافي السعودي قبل ربع قرن.
* قبل ربع قرن يا سادة يا كرام، ولا يحلى الكلام، إلا بذكر سيد الأنام.. ارتفعت على كامل التراب الوطني، منائر ثقافية غاية في الأهمية.. أندية رياضية اجتماعية ثقافية بالعشرات.. أندية أدبية.. جمعيات للثقافة والفنون.. ولما أخذت الأنظار تتجه الى هذه المؤسسات، وارتفع فيها أكثر من صوت ثقافي ينادي بالتطوير والتحديث، ويسهم في تحريك عجلة التقدم والنهضة، وعرفت بعض أقدام الشباب الطريق إلى هذه المحافل النهضوية التنويرية، هبت عليها من كافة الجهات، رياح صرصر عاتبة، حثت عليها كثير من الأتربة والطين، حتى وارتها فأوهنتها، وأطفأت ما أضاء من شعلها، وجلست على تلالها الخربة، وهي تندب حال أمة حزينة بائسة، ليس لها حظ في دنياها الفانية، سوى المسخرة، والهزؤ، واللعب، ومزامير الشيطان، والرسم على الجدران، والابتسامات البلهاء، والضحك الدال على قلة الأدب..!! فهل أمة هذا حالها، هي من أهل الجنة، أم من أهل النار..؟!.
* أعرف جيداً، كيف شُنت الحرب على المنابر الثقافية في بلدي منذ ربع قرن، وكيف استطاع القوم إياهم، الالتفاف على البرامج الوطنية، في سياقاتها (الأدبية والثقافية والرياضية والفنية)، وتجفيف ينابيعها، وتيبيس منابتها، واجتثاث جذورها، وتصوير كثير من مشاهدها (الذكورية) البحتة، على أنها رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه..! فكيف لو أنها توسخت ب(بالأنثوية)..؟!.
* ليس التنوير الذي حملته جامعة الملك سعود، هو وحده الذي تم وأده، وليست بسمة عسير، هي وحدها التي أخفيت، ولم تكن محافظة عنيزة وحدها، هي التي تعرضت لرياح التدوير والتأخير، لا التطوير والتنوير.. ولكن الوطن كله، تم اختطافه منذ ربع قرن، وحتى تعود البسمة الى شفاهنا، وتدور عجلة التنوير والتطوير الى الأمام من جديد، فإننا نحتاج إلى ربع قرن قادم، لأن محو عار الانكسار، لا يتم في ليلة وضحاها، ومن التضحيات المتوجبة للوطن العظيم، الصبر على الأذى، ورفع شوائب القذى أولاً بأول.
* نتذكر جيداً، بدايات الأندية الرياضية، أيام كانت تعج بالشباب في الأماسي الجميلة، كل شاب كان يجد فيها ما يناسب هوايته، وينمي قدراته، ويحقق مواهبه، حتى فن التصوير، ودار السينما، والمراسم وغيرها.. اليوم.. ماذا بقي في هذه الأندية، يصارع رياح التبخير والتأخير، غير كرة القدم..؟!.
* ونتذكر جيداً، بدايات جمعيات الثقافة والفنون، كانت زاخرة بالهواة والمبدعين كل في مجاله.. تمثيل.. غناء.. موسيقى.. رسم.. مسرح.. محاضرات.. ندوات. كانت هناك فصول تعلم العزف.. ماذا بقي في هذه الجمعيات يمكن أن يسمى ثقافة أو فناً..؟!.
* ونتذكر جيداً، بدايات الأندية الأدبية.. كانت فيها ترشيحات وانتخابات، وكانت فيها ندوات وأمسيات، وكان الناس يتزاحمون لسماع رموز التنوير الثقافي في هذه المنابر الجميلة، من أمثال غازي القصيبي، هشام ناظر، والغذامي والسريحي وغيرهم، حتى تعرضت هي الأخرى لرياح التشكيك والتفسيق والعلمنة، ثم التكفير في مرحلة متأخرة، فانزوت ووهنت، واستسلمت لأصوات حادة، تذم التحديث، وتجرم التنوير، من الأدباء والشعراء والمبدعين.. حتى رئاسات الأندية وإداراتها، تحولت من النمط الديمقراطي المرسوم في نظامها، إلى رئاسات وإدارات أبدية منذ ذلك الحين، لأن الحركة الراديكالية في المجتمع، طالت قيادات الأندية نفسها، فأضحت الترشيحات والانتخابات، نوعاً من الرجس هي الأخرى، ورأينا كيف تحول مدير الأندية الأدبية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب آنذاك، الأستاذ المرحوم (أحمد فرح عقيلان)، إلى محارب في الصف الراديكالي، ضد التنوير الذي يفترض أن تقوده الأندية التي يديرها هو، فيؤلف الكتب في تجريم الحركة نفسها، ويفسق رموزها التحديثية (جناية الشعر الحر) مثالاً..!.
* لم يكن رئيس الأندية الأدبية وحده في تلك الفترة، من انقلب على أهدافها ففككها، ولكنه كان أداةً اسغلتها رياح الراديكالية، التي حكمت على الحداثة بالكفر، وعلى رموز التنوير في تلك المرحلة بالعلمنة، وأصبحت هي ومن معها أهل (فضيلة)، وكل من عداها أو عاداها من العالمين، أهل (الرذيلة)، وأظهرت المجتمع السعودي كله، في صورة المتوجس خيفة من كل جديد قادم، فهو كائن ضعيف أو متوحش، يرتعد من سماع مجرد مصطلحات جديدة، لم يتعود على سماعها في حياته، فكيف به وهو يخوض تجربة تنويرية لم يعهدها من قبل..!.
* جاءت كتبهم وأشرطتهم ومحاضراتهم، في نسق منظم فريد، تسير في اتجاه شرس ومضاد، لكل حركة تنويرية تنهض بها المنابر الثقافية، بل وتسلطت على كثير من هذه المنابر، حتى أصبحت تستخدمها لأغراضها..!.
* ماذا بقي من الأندية الرياضية زمان، والأندية الأدبية زمان، وجمعيات الثقافة والفنون زمان..؟!.
* ماذا بقي في منائر ثقافية تنويرية، سعت الدولة إلى رفعها منذ أكثر من ربع قرن، فرعتها ودعمتها وعلقت عليها كل آمالها، في خلق توازن (ثقافي اجتماعي)، يحافظ على سير السفينة والوصول بها إلى بر الأمان..؟!.
* هذا هو حالنا، بعد أن وهن عود المنابر الثقافية، التي أردناها لأنفسنا ذات يوم، من ربع قرن.
فاكس 027361552 |