إن شعور الإنسان بأهميته، شعور فطري راسخ، وربما يكون - هذا الشعور بالأهمية- وراء كثير من الإبداعات، والإنجازات، والأعمال الجليلة والعظيمة، التي يعرفها الناس.
ولهذا ذكر الله عز وجل لنا قول إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}(الشعراء:84).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذَا ماتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ).
فهذا إشارة إلى أن الإنسان يحب أن يشعر بأهميته وذاته، حتى بعد موته، يحب أن يبقى عمله، ولذلك أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى: الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به، والولد الصالح - ذكراً أو أنثى - الذي يدعو له.
إن الذين يمارسون تحقيرَ الآخرين، وازدراءَهم، ومصادرة شخصياتهم لن يجنوا من ذلك إلا الشوك والعلقم، سواء كانوا مسؤولين، أو مربين، أو آباء، أو معلمين، أو أي شيء آخر.
ومجتمعنا الخليجي بحاجة إلى دروس ودورات في هذا السياق.
الكثيرون - في المجتمعات العربية عموماً والإسلامية- يتوارثون تحقير المرأة، والنظر إليها على أنها مخلوق من الدرجة الثانية، وربما العاشرة أحياناً.
ولا زال بعضنا أسرى لهذه النظرة الدونية، وكأننا لم نسترشد بالهدي النبوي، والوحي الرباني كما يجب، أو لا زال يزاحمه الإرث الجاهلي المترسخ.
مع أننا في عصر ترفع فيه شعارات كثيرة، الحرية، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، العدالة، المساواة.
حتى أصبح كثير منا، ينظرون بريبة إلى هذه المصطلحات والمفاهيم.
بينما في صميم ديننا وشريعتنا ضمانات وحقوق، أرقى وأنبل من أي مدونة أو ميثاق لحقوق الإنسان في العالم، الآن أو قبل الآن.
المشكلة هنا في قضية المرأة، وفي قضية الفتاة على وجه الخصوص، مزدوجة بين المفاهيم الجاهلية الحديثة والمفاهيم الجاهلية.
فأولاً: يتداول كثير من الناس مفاهيم مجحفة بحق المرأة، منها: أن المرأة خائنة بطبعها، فتسمع من يقول:
- إن ماتت أختك، انستر عرضك..!
- يا تسترها يا تقبرها..!
- هم البنات للممات...!
وبعضهم يقول عربية: دفن البنات من المكرمات..!
ثانياً: ولادة البنت في بعض البيئات عار وشؤم!
حتى تقول بعض الأمثال: صوت حية، ولا صوت بنية!
ويقول:
بطن جاب الولدان
أطعموه لحم الضان
بطن جاب بنية
اضربوه بالعصية
ثالثاً: ليس للمرأة رأي ولا قرار!
ولهذا يتداول الكثيرون: شاوروهن واعصوهن، حتى بعضهم يقول هذا على أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شيء مكذوب، ليس له أصل.
رابعاً: المرأة للمطبخ، ولذلك يقول: المرأة لو راحت للمريخ آخرتها للطبيخ.
وفي الكلمات، والقصائد، والأشعار العربية تقول مع الأسف:
ما للنساء وللخطابة والصحافة والكتابة
هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة
إن هذه المفاهيم السائدة هي: المفاهيم العربية، الجاهلية الأولى، وليست المفاهيم النبوية المحمدية الإسلامية.
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (195) سورة آل عمران.
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (35) سورة الأحزاب.
هنا تلاحظ، أن الله سبحانه وتعالى يذكر المرأة مع الرجل، جنباً إلى جنب.
إن كثيراً من البنات يشعرن بالغبن، والغيظ والغضب، من عدم المساواة في المعاملة مع الأولاد.
فإذا جاء الولد، وقد أخفق أو رسب في أربع أو خمس مواد، فإنه يشترى له دراجة.
لكن إذا جاءت البنت بالشهادة، وقد حصلت على تقدير ممتاز، أو حتى على نسبة 100%، فقد يقال لها: هذا لا يهم، ونحن لا نحتاج إلى مثل ذلك.
وبمثل هذا وجد المناخ الملائم لدعوات التغريب، باعتبارها ملاذاً من الظلم الاجتماعي في ظن الكثيرات ووهمهن.
وقد سمعت مقابلة، مع إحدى داعيات تحرير المرأة في مصر، فكانت تتكلم عن شيء كهذا، إنها ردة فعل لبعض العادات والأوضاع، التي ليست من الإسلام، ولكنها من آثار الجاهلية الأولى.
إن المرأة - كالرجل - تحتاج إلى من يمنحها الأهمية، ويستمع لشكواها، ويشبعها وجدانياً وعاطفياً.
فإذا فقدت ذلك من أسرتها، ومن مدرستها، فإنها سوف تجده في مكان آخر، والإعلام اليوم يعطيها دروساً يومية متواصلة في هذا الباب.
لقد أثبت علم النفس الاجتماعي أن الاستماع الجيد إلى الآخرين ليس بالضرورة أنه يقنعهم، أو يغير رؤيتهم، ولكنه يزيد من أواصر المحبة، والتقارب الروحي والعاطفي.
إن من أبرز صفات العظماء، والأكابر، وأصحاب التأثير: الاستماع، والإنصاف، والإصغاء إلى الآخرين.
وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مجموعة من مشركي مكة يعرضون عليه فتكلموا حتى انتهوا، فلما انتهوا قال لهم: (أَقَدْ فَرَغْتُمْ) قالوا: نعم. فقرأ صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن.
إن الإنسان الذي يتحدث إليك - في الغالب - يشعر بظلم، أو يحس بحرمان - أو على أقل تقدير - يحمل وجهة نظر ورؤية معينة، يتحمس لها، ويريد أن يواصلها إليك.
فلا بد أن تسمح له بأن يفرغ هذه الشحنات، بطريقة صحيحة وواعية، وإذا لم تسمح له بالكلام، ولم تستمع إليه بشكل جيد، فإنها تتحول إلى طوفان، وسيل جارف، أو إلى عقد ومشكلات نفسية تدميرية.
بالتجربة يتبين أن المشكلات الكبيرة، في نظام الأسرة، أو الدولة، أو الفرد كانت في بادئ الأمر مشكلات صغيرة لم يتم احتواؤها، والتفاعل معها، فتضخمت وتفاقمت وانفجرت، فالإصغاء الفعال المدروس يشكل صمام أمان للفرد والمجتمع.
وحين يكون هناك نوع من التوتر بسبب مشكلة ما، ولتكن مشكلة حصلت من الولد أو من البنت ينسى الكثيرون إمكانية احتواء هذه الأزمة أو المشكلة، ويتورطون فيها، ويلقون على النار مزيداً من الحطب، فتشتعل أكثر وأكثر.
هناك في موضوع الاستماع عدد من المهارات، يمكن اتباعها:
الأولى: تلخيص الفقرة، التي تمت المحادثة حولها.
فإذا تكلمتما في جزئية أو نقطة معينة، وسمعت منه، وسمع منك، فإنك يمكن أن تقوم بتلخيص هذه الفقرة..
وتتحدث، أن وجهة نظرك -يا محمد- تعني: كذا وكذا..
وأنك تستدل عليها بالأدلة التالية...
بهذه الطريقة تشعره بأنك مهتم به، وأنك فهمته بشكل جيد، واستطعت أن تطمئنه إلى أنك لن تتقول عليه، أو تفهمه بشكل مغلوط، وبالتالي تستطيع أن تقنعه، وأن تؤثر عليه، وأن تشعره بأنك مُصغٍ له، بشكل جيد.
إننا -في كثير من الأحيان- لا نسمح للآخرين أن يتكلموا، وإذا تكلموا، لم نستطع أن نفهم عنهم، ولا أن نشعرهم بأننا فهمناهم.
المهارة الثانية هي: الدخول إلى عالم الآخرين، الذين نستمع إليهم، أو نتحدث معهم.
فحينما تنظر إلى اثنين يتكلمان في موضوع معين تستطيع أن تعرف إن كان هذا الكلام يبنى على علاقة رسمية متكلفة أو على علاقة ودية أخوية حميمة صادقة.
ذلك بحسب القرب، والإنصات، ونظرات العيون، وحركات اليد، ولغة الجسد كما يقال.
إن الأم تستطيع أن تقيم تواصلاً جيداً مع ابنتها، حين تضع نفسها في مستواها، وتتخاطب معها بلغة الجسد، وتحسس البنت بالأمن والثقة، وتتجاوب مع مشاعرها، وأحاسيسها، وظروفها.
مثلاً: المكان أو الغرفة، التي يجري فيها الحوار.
الوضعية التي يكون فيها المتحاورون.
الاستعداد النفسي، يؤثر في نتائج الاستماع والحوار.
يمكن أن تشجعي البنت على: تجاوز الخجل، والصدق والصراحة، والبوح بما لديها، والتعبير عن أحاسيسها، وأن تظهري لها شدة الاهتمام بما تقول.
إن الكثيرين لا يريدون منا حلاً لمشكلاتهم، بقدر ما يريدون القلب الذي يتوجع ويتأسى، وكما قيل:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يُسليك أو يتوجعُ
تخيل أنك تتكلم مع شخص.. فينظر في الساعة، أو يرد على الجوال، أو يتصفح جريدة، حتى من طرف خفي، أو يلتفت ذات اليمين أو ذات الشمال، أو يسرح بفكره، ولو كان ملتفتاً إليك.
فالدخول إلى عالم الفتاة يقتضي النفاذ إلى روحها، وقلبها، ومشاعرها، وأحاسيسها، وأن نشعرها أننا معها ولسنا ضدها.
المهارة الثالثة من مهارات الاستماع: توجيه الحديث وإدارته صوب الوجهة المفيدة التي نريدها.
فقد لا تستطيع البنت أن تصرح بكل ما لديها، أو تفصح بما عندها، وقد ترتبك، أو تقع في خطأ، فلا نمسكها بهذا الخطأ، ونحاسبها عليه، بل نساعدها على التعبير عما تقول، ونشعرها بأن الوضع عفوي وعادي.
ويمكن أن تتحدث الأم نفسها عن تجربتها في الطفولة والصغر، وأني مررت بهذه المرحلة التي مررت بها، وحصل لي كيت وكيت.
قد تتحدث البنت عن معاناة، ولا تستطيع أن تقول كل شيء، أو تعبر عن عموميات، ولذلك قد تزدريها الأم، أو تتهمها أنها لا تعرف كيف تتكلم، أو أنها غبية، أو ساذجة، أو ما أشبه ذلك.
سمعت الكثير من البنات تقول إحداهن: لم أجد أحداً يفهِّمني، ما معنى هذه الكلمة؟
ربما تكون البنت تقصد، أنه لا يوجد في أسرتها من يوافقها على ما تريده، هذا صحيح.
لكن الكثيرات يقصدن بهذا: أنها لم تجد من يستمع إليها باهتمام.
|