قبل عدة شهور مضت وفي هذا المكان بالذات ناقشت في كلمة العدد الاعتراف بالصين الشيوعية من جانب بعض الدول الصغيرة الدائرة في فلك الغرب على أن ذلك ناتج عن مسعى من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ، واليوم وقد تم ما توقعنا حدوثه بقبولها عضوا في الأمم المتحدة ، على أنه يحقق هدفين من أهداف الدولة العملاقة :
(الأول) : قد يكون اقتصاديا وهو أن نجد منتجات الغرب طريقا لأسواق سبعمائة مليون مستهلك من البشر الصفر ، فيكون بذلك إنعاشا اقتصاديا وقضاء على بطالة يتصاعد منسوب حجمها في بلاد الدنيا الجديدة ، حيث بلغت الطاقة الإنتاجية مستوى عاليا تواجهها منافسة شديدة في الأسواق العالمية لدرجة الإغراق بالسلع الدولية المختلفة ، وفي التقرب من الصين الشعبية ما يساعد على حل كثير من مشاكل سياسة التسويق للمنتجات الأمريكية.
(والهدف الثاني) : سياسي واستراتيجي لمواجهة المد الروسي الذي خرج على قيود الملاحة في الدردنيل وغيرها من المضائق الدولية المحصنة بالقواعد العسكرية التي كانت تتحسس تحركات الجيش الأحمر وتتأهب إلى تطويق المنافذ التي حاول ذلك الجيش دائما ان يجتازها ، غير أن كل تلك التطويقات المدعومة بقواعد الحلف المركزي وكذلك حلف جنوب شرق آسيا لم تحد من نشاط الروس العسكري حين داهمت وسائله الهجومية الشعب المجري وأرهبت دباباته الشعب التشيكي ، مما اضطر خصومه في البلدين إلى الاستسلام والتخلي عن مقاومة الشيوعية الحمراء عندما اجتاحت بلادهم. والآن وقد أصبحت مياه البحر الأبيض المتوسط مشتى دافئا يستمرئ أفراد الأسطول البحري الروسي عبور مياهه واستقرار قواعدهم فيها طول العام ، زيادة على ذلك تشجيع التغلغل الشيوعي في مجاهل أفريقيا وغاباتها المعتمة.
هذا بجانب ما تكشف للغرب عن حقيقة الصراع العقائدي (الديالكتيكي) داخل المعسكر الشيوعي ، فكان لأمريكا فرصة ذهبية لتبني الاعتراف أولا بالصين الشيوعية عن طريق الدول الصغيرة التابعة ، والعمل على قبول الحوار لانضمامها لأروقة الأمم المتحدة ، على أن ذلك قد يساعد على إثارة العداء العقائدي على مشهد من دول الغرب والعمل على كسب مودة الصين يضيق الخناق على الروس ، لتضطر دولتهم للهبوط إلى مستوى الدول التابعة للغرب.ولا يستبعد أن تصوت كل من الصين وروسيا في جانب الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا ضد بعضهما للبعض الآخر ، كما قد لا يطول الوقت إلا وتضطر روسيا إلى حشد قواتها وحصر قواعدها في مواجهة الصين الشعبية.ولعل ما شجع أمريكا كثيراً على الإسراع في تبييت الاعتراف بالصين والتمهيد له عن طريق غيرها والتعجيل على إثارة دخولها للأمم المتحدة لما لمسته من معاناة روسيا لمخاطر حدودها المشتركة مع الصين ، ولكي تسارع أمريكا إلى إذلال الروس أو إشغالهم بخطر الدولة الجديدة على العضوية في المنظمة الدولية ، ولم تكن روسيا في مواقفها من أمريكا تمثل العند الذي كان معروفا عنها قبل الستينات ، فقد أصبحت تميل إلى ممالأة أمريكا في كثير من الأحداث الدولية ، ولعل ذلك هو ما أدهش جمال عبد الناصر حينما كان يتباهى بالروس ودعمهم العسكري له في مواجهة الأسطول السادس المتمركز في البحر الأبيض المتوسط ، عندما أعلن طرد قوات الأمم المتحدة من سيناء وأغلق خليج العقبة وهدد بالحرب منفردا عن الدول العربية حين ورد له الإنذار الأمريكي عن طريق السفير الروسي قبل ساعات من بداية حرب 1967 ، فواجه أزمة نفسية حادة عزلته عن القيادة بسبب ما اتضح له عن ممالأة الروس وخذلانه برفض طلبه للروس العمل على إصدار مجرد إنذار كدعم معنوي.
|