مع حلول الصيف، واندفاع أولياء الأمور، والطلاب والطالبات إلى الجامعات للحصول على قبول من تلك الجامعة أو الكلية، والمؤسسات الأهلية العلمية، والمعاناة الكبيرة التي تتكبدها الأسرة، والعائلة، بحثاً عن مواقع لأبنائها, وبناتها، يتجه الميل إلى التخصصات التي يحصل من خلالها الطلاب على وظائف في القطاع العام والخاص على حد سواء. وهذا أمر لا بأس به ومن حق كل إنسان أن يبحث عمّا يراه مناسباً له في اتجاهاته الحياتية ومن ذلك التخصص الذي يهواه!!
- لكن الأمر الذي استوقفني كثيراً ولأعوام سلفت هو استهتار الكثير من الناس، والكتاب، والطلاب، والطالبات، والإعلام بصفة عامة، والمجتمع، بعلم الجغرافيا، فبعض الكتاب يطالب بإغلاق أقسام الجغرافيا والتاريخ على اعتبار أنهما تخصصان لا مستقبل لهما، وغير مفيدين في عالمنا المعاصر وكثير من الطلاب يتأفف عندما لا يجد قبولاً له إلا في قسم الجغرافيا وكأنه يساق إلى زنزانة..
- وهذا مع الأسف يعبر عن جهلنا الكبير بعلم الجغرافيا، ذلك العلم الذي سبق عصر النهضة العالمية حيث مهدت الكشوف الجغرافية والطريق لمعرفة العالم الذي نعيشه والكرة الأرضية أو القارات واليابسة والماء (بحاراً، محيطات، وبحيرات) وشعوباً، وحضارات ما كانت لتعرف لولا فضل الله ثم علم الجغرافيا..
- الجغرافيا ليست هي السطح ومناخ البحر الأبيض المتوسط حار جاف صيفاً دافئ ممطر شتاء والحاصلات الزراعية كما سوقتها المناهج التعليمية التي رأت أن معرفة عواصم الدول إنجاز جغرافي كبير.
- الجغرافيا هي ذلك العلم الذي يتصل بكثير من العلوم الطبيعية والبشرية والصناعية والعسكرية، والفلك، وجغرافية الحروب، الجغرافيا تحتضن جغرافية السكان وفئاتهم وأعمارهم وإحصاءاتهم، ومراكز تجمعاتهم ودياناتهم ومعتقداتهم ونشاطاتهم، واقتصاداتهم، (الجغرافيا الاقتصادية).
- الجغرافيا البشرية ذلك التخصص الذي يتعرف على سلالات العالم ومن أين انحدروا وأصولهم وتمازجهم في قارات العالم بأسره على اختلاف دياناتهم ومواقعهم ونزوحهم واستقرارهم ونشاطاتهم.
الجغرافيا الطبيعية هي التي تتعرف على ملامح الدول من الناحية الطبوغرافية، جبال ووديان، وسهول وبحار، وانهار وبحيرات وهضاب وخلجان، ومناخاتها المختلفة تبعاً لمختلف مواقعها من ناحية التضاريس، وموقعها بالنسبة للكرة الأرضية والمدارات المناخية.. هذا التخصص يقود إلى الجغرافيا العسكرية (الحروب) وكيف تتعامل الدول من خلال منظور الجغرافيا الطبيعية وإمكانية اختراق تلك الدول والوصول إلى الأهداف المنشودة بطريقة علمية ومختصرة!! ولا سيما إذا علمنا أن هزيمة ألمانيا كانت في الأساس هزيمة جغرافية (لا داعي لشرحها الآن) وهذا التخصص يقود إلى تخصص جغرافي آخر.. هو (علم الخرائط) وهي المادة التي لا يستغني عنها أي جيش في العالم (طبوغرافية الأرض) فالخرائط ترصد المرتفعات والمنخفضات والكهوف والوديان السحيقة من خلال خرائط متنوعة لا يسمح المجال بذكر أنواعها..
- الجغرافيا مسيسة العلاقة بعلم الآثار، والحفريات الممتدة في باطن الأرض والمسماة بعلم (الجيومور فولوجي) ذلك العلم المتعلق بدراسة باطن الأرض وأنواع الصخور وسنواتها الضوئية وكيف تشكلت وهل كانت بحاراً أم ودياناً أم أرضا جرداء.
- الجغرافيا مرتبطة بهندسة الطرق، من جسور وأنفاق وجسور معلقة ذلك أنها تحدد المواقع التي يقوم عليها ذلك الطريق سواء أكان نفقاً أم جسراً معلقاً لكونها العلم الذي يصون الأرض فكلمة جيو تعني (الأرض) وغرافيا تعني وصف وهي باللغة الإنجليزية، تكتب geo graphy، إنها ذلك العلم المرتبط بالفلك والطقس والأحوال الجوية التي نراها اليوم كل ليلة في التلفزيون.. ماذا أقول عن جغرافيا الحضارات. ومدى التعرف عليها من خلال الدراسات الجيومورفولوجية (والحفريات) التي أبدع فيها الغرب أيما إبداع.
- عندما كنت طالباً في أمريكا وفي بريطانيا كان هناك طلاب يفاخرون بانتسابهم لعلم الجغرافيا وبالمناسبة هذا العلم في الجامعات الغربية في الولايات المتحدة وبريطانيا على وجه الخصوص يعتبر قسماً علمياً (scince) وليس أدبياً .. ذلك أن الحضارة العربية تعاملت مع جغرافية الرحلات.. أوه نسيت جغرافية الرحلات كابن بطوطة وابن ماجه وفاسكو دي جاما وماجلان وابن رشد وغيرهم.. كانت الجغرافيا وصفية في الفكر العربي بحكم طبيعة العصر آنذاك، فلا أعرف غير البوصلة والاسترلاب وغيرها مما يمكن أن يعتبر إبداعاً بشرياً في غابر السنين. لكن الغرب طور الجغرافيا بما يتواكب مع روح القضية المعاصرة والتقدم العلمي والفكري وبعد عصر النهضة والكشوف العلمية المتواترة من عصر البخار وحتى يومنا الحالي.. ومن بين الجغرافيين الذين يشكلون رابطة في كل إقليم أو دولة تجد المهندس والرحالة وعالم الآثار والنحات والفلكي.. أوه نسيت الجغرافية الفلكية والمجموعة الشمسية..
والكواكب والنجوم لا أريد أن أسهب، ما أود قوله: كوننا دولاً نامية لا نفهم حقيقة الجغرافيا، ونؤمن بأنها الرياح والسطح والمنتوجات الزراعية.. وليست الجغرافيا الاقتصادية كما يفهمها الغرب وما إلى ذلك كوننا لا نفهمها... ليس بالضرورة أن نقلل من شأنها فالإنسان (عدو ما جهل) ولا ينبغي من كتابنا وإعلامنا تكريس هذه النظرة القاصرة لمفهوم الجغرافيا.. وهنا يأتي دور التعليم العالي والتعليم العام والمؤسسات الأهلية العلمية والإعلام في توضيح ما هية الجغرافيا، ألا يعلمون أن هناك مؤتمرات دولية لعوالم مختلفة للجغرافيين فقط، ألا نعيد صياغة مفهومنا للجغرافيا والتعامل معه بروح العصر المتطور نحن لا نفهم الجغرافيا ولا طبيعة المملكة الجغرافية وانظروا إلى شوارعنا المتعرجة، وإلى طلاء بيوتنا الذي يصبح باهتاً بعد سنة أو سنين من طلائه، وإلى الرضوض التي تعتري أركان منازلنا والشقوق التي تجتاح مبانينا، وإلى هجرتنا الدائمة إلى الخارج هرباً من جغرافيا لا نفهمها .. نحن نشترك مع لوس انجلوس في الطبيعة المناخية لكنها مزار لكل السائحين العرب ونحن نودع بلادنا لجهلنا جغرافيتها فلا نحس بقربها منا لأننا ببساطة لا نفهم الجغرافيا والتعامل معها.
*مدير عام التخطيط والإحصاء بوزارة الداخلية |