آثرت تأجيل الكتابة عن الحوار الوطني الثالث الذي عقد مؤخراً في المدينة المنورة وتناول قضية المرأة في المملكة العربية السعودية حتى تهدأ المساجلات التي تبعت انتهاء الحوار, الذي ترك (بصمة) واضحة وسجل حضوراً قوياً وعكس حكمة القيادة في توفير قناة وطنية للحوار وجسّد حاجة ملحة لمعطياته في ظل عالم يموج بالمتغيرات ويحفل بالتباينات.
كان سمو ولي العهد حاضراً باهتمامه ودعمه وتبنيه فكرة الحوار (الرائدة) منذ البداية وحتى تجسدت واقعاً ملموساً في لقاء الحوار الأول الذي استضافته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض في 15 - 4 - 1424هـ ثم اللقاء الثاني الذي عقد في رحاب أم القرى في 4 - 11 - 1424هـ.
وأخيراً اللقاء الذي عقد في طيبة الطيبة, والجميل أن اللقاء الذي تناول مسألة المرأة عقد في أول مكان على ظهر البسيطة يشهد تحرير المرأة من ربق الجاهلية بشرائع إسلامية صانت المرأة وحرّمت وأد البنات ومنحت النساء حقوق الإنسانية.
كان اللقاء الثالث بالذات نقلة نوعية في معطيات الحوار الوطني, حيث شهد تقديم بحوث علمية تناولت مختلف جوانب قضية المرأة, كما شهد حضور ممثلين لعدد من الوزارات ذات العلاقة بموضوع اللقاء, كما شهد ولأول مرة حضور المرأة مناصفة مع الرجل, أي (35) رجلاً و(35)امرأة.
ولقد قدمت النساء في اللقاء أبحاثاً ومداخلات على مستوى عال من الموضوعية جسدت فكراً علمياً راقياً ورؤى فكرية عميقة, تعكس المستوى العلمي والفكري المتطور الذي بلغته المرأة السعودية.
العلماء في الحوار
شارك في اللقاء الثالث معالي الشيخ صالح الحصين والشيخ عبد الله المنيع والشيخ عبد الله المطلق والشيخ عبد الله العبيد والدكتور عبد الله نصيف والدكتور راشد الراجح.
وكانت طروحات هؤلاء العلماء ومشاركاتهم تعكس وعياً بالمتغيرات ورؤية ثاقبة في المجريات وارتقاء فوق المهاترات وحساً تربوياً في تلقي الطروحات.
لقد سعدت بمجاورة الشيخ الحصين الذي رفض الجلوس في المنصة بعد ان انتهت مراسم الافتتاح, وآثر الجلوس مع بقية المشاركين وكان أن تشرفت بالجلوس في المقعد المجاور له, ولقد تسنى لي سؤال الشيخ حول رؤيته لممارسة البنات للتربية البدنية في المدارس, فأجاب بأن ليس هناك ما يمنع من ذلك طالما أن في ذلك فوائد تعود على صحتها.
وكانت كلمة الشيخ الحصين الافتتاحية واستشهاده ببعض ما جاء في كتب انجليزية لتبيان رؤيته مستعيناً بإجادته للغة الانجليزية كانت حافزاً إيجابياً لانطلاق الحوار.
الصحافة والإثارة
حصل اللقاء الثالث بالذات على تغطية واسعة من قبل وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة, ولقد نجحت بعض الصحف في صنع مادة صحفية حافلة بالكثير من الإثارة, وجنح البعض إلى الخروج عن محددات العملية الصحفية الموضوعية.
أذكر ان أحد الصحفيين بادرني أثناء خروجي من القاعة سائلاً: لماذا انسحبت من اللقاء؟ أجبته مستغرباً: من قال لك انني انسحبت؟ لم انسحب يا أخي الكريم ولم ينسحب أحد من اللقاء!
وإذا بي في اليوم التالي اتلقى اتصالات من عدد من المعارف يسألونني عن صحة ما نشر في إحدى الصحف ان عدداً من المشاركين ومن بينهم أنا, انسحبوا من اللقاء!!!.
ورغم ان البعض استاء من تجاوز بعض التناولات الصحفية, إلا أنني أرى ان الصحافة أسهمت في أن يكون لهذا اللقاء بالذات بصمة خاصة ونجاح واضح وأثر ملموس واستقطبت متابعة واسعة من قبل المواطنين. يقول أحد الصحفيين, القياديين: القراء أصبحوا يتابعون اخبار الحوار واختلافات المتحاورين كما يتابعون صفحات الرياضة, أعداد التوزيع لدينا ارتفعت خلال أيام اللقاء.
إغلاق الحوار
عندما سئلت في لقاء أجراه الدكتور الإعلامي اللامع محمد العوين في القناة التلفزيونية الأولى عن مرئياتي حول كون اللقاء مغلقاً على المشاركين فقط, قلت إن ذلك كان مقبولاً في اللقاءين الأول والثاني, ولكن مع الثالث تكون التجربة قد نضجت نسبياً وأصبح من الملائم فتح اللقاء.
كان ذلك قبيل انعقاد اللقاء ولكن بعد مشاركتي في اللقاء أدركت ان الأمر ليس بهذه البساطة, فقد يكون لذلك تبعاته وتداعياته وأشفقت على القائمين على الحوار حيث إنهم بين المطرقة والسندان.
الجنود المجهولون
يجدر بي أن أذكر بالتقدير الدور الكبير الذي قام به الاستاذ فيصل المعمر أمين عام مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني, إشرافاً ومتابعة وتنظيماً وإدارة وجهداً متميزاً كما يستحق الشكر بقية فريق العمل الذي شارك معه وأعضاء اللجان المختلفة فلقد أسهموا في تهيئة المناخ وتفعيل المعطيات وتوفير الامكانيات لنجاح اللقاء.
التوصيات
قرأت مقالاً للصديق الاعلامي والمصرفي المتألق الاستاذ طلعت حافظ قال فيه: إن توصيات الحوار الوطني الثالث كانت (مطاطية) وفضفاضة ولم تلامس التطلعات.
ولقد سألني الكثيرون من المعارف: لماذا جاءت توصياتكم بهذه الصورة العمومية, ولماذا تجاهلتم بعض قضايا المرأة مثل قيادة السيارات وغيرها.
والحقيقة التي لم يدركها البعض هي أن التوصيات التي نشرت في الصحف ليست كاملة, كما أن التوصيات ليست رسمية وحتى تكون رسمية لابد أن تعتمد من صاحب الصلاحية وهذا نظام متعارف عليه.
الشيء الآخر أنه لو نفذت توصية واحدة فقط وهي إنشاء لجنة وطنية لشؤون المرأة لاعتبر ذلك انجازاً كبيراً وخطوة مرحلية ونوعية هامة للمرأة السعودية.
ثم لماذا نطلب الكثير بشكل آني, لماذا لا نعتبرها بداية وخطوة على الطريق لتحقيق تطور تدريجي ومكتسبات متلاحقة تأتي في وقتها بإذن الله تعالى.
وفي كل الأحوال كان هدف الحوار واضحاً, ومرجعية المتحاورين واضحة وظلت الثوابت والقيم المشتركة ماثلة.
وساهم اللقاء في تأصيل مبدأ الحوار المستند على تنوع الرؤى وتفعيل دور المواطن في مجرياته, وسيكون له تأثيره اللاحق اجتماعياً وثقافياً.
ويظل الحوار ظاهرة حضارية, ويظل حصانة للشباب من أن تستغل عقولهم بالضلال وللضلال. لقد أصبح الحوار عنصراً من عناصر الخطاب السياسي للقيادة الراشدة, ومن الفكر السياسي والاجتماعي والثقافي, وفي ذلك مواكبة واعية لاحتياجات مستجدة يأتي مركز الملك عبدالعزيز الوطني كمرجعية مؤسساتية لترجمة هذا الخطاب وتلبية هذه الاحتياجات.
وينبغي ألا يقتصر الدور على المركز, بل تساهم المؤسسات المختلفة في مد مظلة ثقافة الحوار الهادف ونشر فكر تقبّل الرأي الآخر واحترامه.
وأخيراً فإن ثوابت الالتزام بالشريعة والولاء للقيادة والوحدة الوطنية ظلت المرجع الأساسي والقناعة الثابتة لدى جميع الحاضرين.
وان شهدت مجريات الحوار اختلافات في الآراء وتبايناً في الأفكار, وربما خطأ هنا أو تجاوزاً هناك, فإن ذلك أمر طبيعي جداً, بل ان الحوار يقام أساساً لوجود التباين في الآراء والأفكار.
ولكن اللافت أن جميع المشاركين نفضوا خلافاتهم واختلافاتهم مع نهاية اللقاء وسادت بينهم روح الألفة والمحبة والتقارب فالاختلاف في الرأي لم يفسد للود قضية.
www.dr-abdalelahsaaty.com |