تركي الحمد - شخصية ثقافية سعودية, ذو قلم متدفق ورأي مبثوث في غير واحدة من وسائل الإعلام العربية المرئية منها والمقروءة والمسموعة. وهو عندما يعرض نفسه للرأي العام فإنه بذلك يعطي الضوء الأخضر لمن يتفق معه أو يختلف. أو هكذا أعتقد. وإن لم يكن كذلك فإنه من حقنا أن نبدي وجهة نظرنا فيما نتفق معه عليه أو نختلف فيه، ذلك أن مضامين رأيه ورسالته إنما هي للرأي العام الذي نحن جزء منه.
وعلى الرغم مما نقرأ له من رأي في مطبوعة, أو نستمع إلى حديث له في قناة تلفزيونية أو حوار في أخرى إذاعية إلا أن ما تحدث به في قناة دبي عبر برنامج (المقال) الذي أعيد بثه يوم الجمعة 14 جمادى الأولى 1425هـ وما طرحه فيه من رأي يستدعي أن نثير معه عدداً من النقاط لتوضيحها والرد عليها. آراء الدكتور تركي الحمد جاءت في سياق الحديث حول عنوان الحلقة الذي خصصه مذيعها عن أحداث العنف والإرهاب التي شهدتها بلادنا ومضامين خطاب مبادرة العفو الملكي للفئة الضالة الذي ألقاه سمو ولي العهد نيابة عن خادم الحرمين الشريفين- حفظهما الله.
أولاً: لا بد من تقرير حقيقة يجمع عليها أهل هذه البلاد جميعاً وهي أنهم يرفضون كل ما يحدث الآن من أعمال عنف وإرهاب ويعتقدون -بناء على رأي علمائنا وطاعة لولاة أمرنا - أن ما يحدث ليس من الإسلام في شيء وإن تلبس باسم الإسلام واتخذ الدين ستاراً وذريعة له. ومن شذ عن هذا المعتقد برأي أو سلوك فإنما هو داخل في دائرة الفئة التي حذر منها الدين وبينها العلماء, وتحاربها الدولة الآن والمجتمع على حد سواء.
ثانياً: قولك إن من سكت عن التنديد بمثل هذه الأعمال أو تردد فيها سببه الانتماء إلى الخطاب الديني السائد في المجتمع فيه ظلم وتجن على الحقيقة المقررة سلفاً, ذلك أن (الثقافة الدينية) التي ذكرتها غير مرة في حديثك هي التي بينت بالدليل الشرعي والعقلي رفضها الصريح لكل ما يهدد أمن المجتمع ويقوض استقراره. ولست هنا في مقام سرد النصوص فهي أشهر من أن تذكر, لكني أتعجب من تنزيل الوقائع على مسلمات ونظريات كنت ترددها قبل هذه الأحداث بفترة طويلة, وأنت أول من يعي ويدرك أن المنطلقات الفكرية لمن يقوم بتلك الأعمال الإجرامية إنما هي (شذوذ) عن (الثقافة الدينية) التي تتردد دائماً في حديثك.
ثالثاً: تعيد الحديث مرات وكرات حول (الثقافة الدينية) بحسبانها المسؤولة عن ظهور أمثال هؤلاء المفسدين ثم تصعد الحديث عنها فتذكر على وجه التحديد أن أحادية الخطاب الديني, والحدِّية وإقصاء الآخر هي السبب في نشأة هذه الظاهرة, ألا ترى يا دكتور تركي أن ما تمارسه الآن وتدعو إليه هو نوع من محاربة هذه الفكرة بمثلها؟ وهل (ثقافة الإقصاء) التي تشتكي منها - إن صحت - تحارب بنظرية الاستئصال المضاد؟ وهل مثلك يقبل أن يعالج الضرر بمثله؟
رابعاً: تقول إن (الصحوة الإسلامية) التي يعانيها المجتمع هي خليط من (السلفية التقليدية) و(الحركية الوافدة)، فإن صح هذا التعريف الذي جاء منك في سياق النقد فما العيب في أن يستفيد (دعاة الصحوة) من علم السلف وآليات الخلف؟ ألم تكن التهم في وقت مضى تساق تجاه (جمود) المؤسسة الدينية إذا ما قورنت بالمؤسسات المناظرة في العالم الإسلامي؟ ثم إن دعاة الصحوة الذين تنتقدهم هم الآن - جنباً إلى جنب مع القيادة والمؤسسات الأمنية - الذين يتصدرون المواجهة الفكرية لتحقيق أمن المجتمع واستقراره.. فماذا فعل غيرهم غير النقد والتجريح وتوسيع الشقة والخلاف؟!
ومن هم دعاة الصحوة هؤلاء؟ هل جاؤوا من فيتنام أم من كوريا؟ أليسوا منا, بيد أنهم نذروا أنفسهم للإصلاح وفق قيم المجتمع ومبادئه. لقد عانى العالم العربي من نكسات القومية والشعوبية والحداثة التغريبية, أعقبتها ظلمات بعضها فوق بعض فرضها الأجنبي على رقابنا أو استوردها اتباعه من بني جلدتنا وها نحن نرى نتائجها اليوم أفنستكثر أن ينبري من بيننا من يذكرنا بعاقبة ذلك كله ويقول: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}؟!
خامساً: ناقش الحوار الوطني عبر لقاءاته الثلاثة عدداً من القضايا الوطنية مثل ظاهرة (الغلو في الدين) التي شددت أبحاثها ومناقشاتها على ثابت (الوحدة الوطنية) وقضية (المرأة والتعليم) التي يدندن حولها من في قلوبهم مرض ويتربصون بالمجتمع الدوائر, وقضايا (مناهج التعليم) وسيأتي اللقاء الرابع ليتحدث عن (الشباب) وقضاياهم.. وهكذا فإن لم تكن هذه قضايا تخدم الوطن والمواطنين فما القضايا التي يريد الدكتور الحمد أن تناقش حتى يصف الحوار الوطني بأنه حوار ليس له من اسمه نصيب أو أن القضايا التي يناقشها (ليست ذات علاقة بالوطن)؟ هل نتوقع ان يناقش الحوار الوطني منهج الدولة الذي قامت عليه؟ أم (الثقافة الدينية الإقصائية) التي انتقدها؟ لقد ناقش اللبنانيون (الطائفية) في منتصف السبعينيات الميلادية, واحتدم الشد والجذب والنزاع والفرقة حتى قدمت (العلمانية) نفسها (حلاً) وسطاً ومخرجاً للصراع, فهل نصعَّد الخلاف الطائفي حتى تأتي (الحلول المستوردة) لتقدم نفسها حلاً لمشكلاتنا؟!
سادساً: جاء في الحلقة أننا في مجتمعنا السعودي ذي الخطاب الواحد, والثقافة الواحدة نعاني (أزمة انتماء إلى الوطن) وشاهدهما أن مفردة (الوطن) لا تسمع إلا في (الأغاني)، أما (الخطاب الإسلامي) فليس لهذه المفردة وجود فيه, وهو ما يعد جزءاً من مشكلتنا حيث (الكثير) لا يشعر بالانتماء إلى الوطن؟!
ومع التحفظ على المصطلحات الواردة في هذا الرأي إلا أنه يدل على جهل فاضح بمكانة الوطن في الثقافة الدينية التي ينتقدها الدكتور الحمد. فإذا كنا نتحدث عن (الكثير) فإن الوطن في مفهومهم دين وعقيدة يتعبدون الله بالمشاركة في حفظه والحرص على أمنه واستقراره.
جاء ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فمن القرآن:
1 - {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} (الحشر 9)
2 - {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة 8) وهل يكون الإخراج من الديار الموجب للقتال إلا من الوطن؟
3 - {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا} (البقرة 246) وهذا توكيد على أن الدفاع عن الوطن من موجبات القتال.
4 - {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} (الحج41) فأين يكون التمكين الذي تقوم به الشريعة وتطبق فيه الشعيرة ويتحقق مفهوم الاستخلاف؟ أليس في الوطن؟
وأما من السنة فإن كتب السيرة النبوية تروي:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هجرته التفت إلى مكة وقال بحزن وشوق: (والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله, ولولا أن أهلك أخرجوني منك قهراً ما خرجت) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
2 - وأنه صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة حيث يعاوده الحنين إلى مكة حيناً بعد حين يفزع إلى ربه داعياً: (اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة).
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الذين هاجروا من مكة يتقاسمون الشوق والحنين إليها ويخففون من لظى الحنين إلى الوطن بالشعر الرقيق الملطف الذي يذكرهم بالجبال والأودية والوهاد والنجاد, ولا نزال نقرأ في تراثنا الإسلامي من الشعر والنثر ما فاضت به قرائح الأدباء والشعراء في حب الوطن والدفاع عنه أو الحنين إليه.
وأما الاستشهاد بأن هذا (الكثير) يهتم بأمور وقضايا المسلمين خارج الوطن فهذه عقيدة مقررة في القرآن والسنة, وليس المقام مقام سرد الشواهد والنصوص. ثم إنه لا تعارض ولا تضاد بين هذا وذاك شرعاً وعقلاً, فالمسلم مطالب بالاهتمام بالأقرب فالأقرب، فالدائرة تضيق أو تتسع بحسب معطى الظرف والواقع, ولذلك شُغِل قادتنا وعلماؤنا ومجتمعنا بما يحدث في بلادنا الآن عن غيره من الوقائع والأحداث خارج الوطن.
هذا بعض من شواهد مفردة (الوطن) في ثقافة (الكثير) الذين تقول عنهم إنهم يعانون (أزمة انتماء إلى الوطن) أرجو ألا تحمل على معنى تزكية الذات والمزايدة في الوقت نفسه. ومن الحق والعدل والانصاف أن نردد معك أن من بيننا من لا يفقه معنى الوطن, أو ليس للوطن في وجدانه وجود, وهم بحمد الله قلة, أو استثناء من القاعدة, والشاذ يعلم فقط للاطلاع والإحاطة ولا يقاس عليه, وهذه القلة هي على طرف النقيض مع قلة مماثلة هي أشد وطأة علينا لأنها تتلبس برداء الوطنية, وتتقلب في أحضان الوطن, وتعيش من خيراته, لكنها تتلقى توجيهاتها من خارج الوطن, وتعيش في غربة عنه وهي فوق أرضه وتحت سمائه!
إن (الكثير) من السعوديين الذين تتحدث عنهم يا دكتور تركي قد أكرمهم الله بالانتماء إلى هذه الأرض, وزادهم إلى شرف الإسلام شرف المكان. ثم شرف ونعمة الحكومة التي ترعى الدين وتحفظ مقدساته, وإني لأتساءل وأدعو الدكتور الحمد أن يتساءل معي من الشقي الذي افتعل التناقض بين الدين والوطنية؟ بل من الجاهل أو المغرض الذي أصَّل لهذا (الوهم) ونشره وروج له؟!
سابعاً: أليست وسائل إعلامنا - بما نلحظه من حرية رأي وتعبير متاحة الآن أكثر من أي وقت مضى - أجدر وأحق بأن نناقش من خلالها تفاصيل قضايانا وهمومنا وآلامنا؟ ما الجدوى من أن يكون الضيف والمذيع من السعودية والقضية عن السعودية، وتكون عبر قناة غير سعودية؟ أرجو أن نجد جواباً شافياً و(صريحاً أيضاً) من الضيف والمضيف.
أسأل الله أن يوفقنا جميعاً للهدى والرشاد, وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه والله المستعان على كل حال.
فاكس: 2498421
|