في فصل الصيف اللاهب، كان العديد من أهل المدينة المنورة، شبابها ورجالها بالذات، كانوا يتجهون إلى قباء (في الجهة الجنوبية من المدينة)، حيث مسجد قباء، وحيث غابات لا نهاية لها من أشجار النخيل، وتحت هذا النخيل عشرات الأصناف من الخضراوات والفواكه، التي لا تغذي المدينة فقط، ولكن بعضها يصدر إلى العديد من مدن وقرى المملكة، وبالذات القريبة منها، مثل مكة المكرمة وجدة والقصيم، ولأن قباء تقع في منطقة مرتفعة نسبيا عن وسط المدينة، إضافة إلى خلوها من الجبال العالية مثل أحد وسلع، فقد كان هواؤها حرا وطليقا، خاصة عندما يصطدم رائحا وغاديا، بغابات النخيل وكافة المزروعات، وبمياه السواقي والأحواض، هذا يجعل الهواء في هذه المنطقة منعشا، ما هيأها أن تكون مصيفا لأهل المدينة، يمتد لمدة قد تزيد على الأربعة شهور، حيث العديد من ميسوري أهل المدينة، كانوا يعمدون إلى شراء محصول النخيل، والبعض الآخر يشتري محصول المزروعات الأخرى مثل التين والعنب والبطيخ والشمام والليمون وكافة الخضراوات الورقية، وهي كثيرة جدا بعضها مؤصلة، وبعضها حديثة، أدخلها من وفد إلى المدينة ودجنها في أرضها، مثل الملوخية والزهرة والأسود، وشراء المحصول هذا قد يعود على من اشتراه بربح وفير، وقد لا يعود، لذلك فإن بعض هؤلاء المشترين لجهلهم بالفلاحة يتفقون مع العاملين في المزرعة أو (البلاد)على إدارتها بالكامل، وفي جميع الأحوال فإن المشتري يكون في حال الربح قد ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول تمتعه بقضاء الإجازة في الحقول بعيدا عن قيظ المدينة، متمتعا بالهواء العليل والمياه الجارية، والسباحة في بركة المزرعة، وقضاء الأمسيات مع أصدقائه في البرزة، وهي تماثل التراس أو البست الذي يقابل المسرح، مع فارق أن هذه البرزة تقابل البركة أو المسبح الخاص بالمزرعة، والعصفور الثاني أكله وشربه مجانا، إضافة إلى ما يقدمه من منتوجات المزرعة إلى أهله وأصدقائه، وفوق ذلك كله ما قد تدره المزرعة من دخل يعوض ما دفعه إيجارا أو استغلالا لمنتجاتها.
لقد عمد والدي إلى هذه الطريقة مرتين أو ثلاث مرات، حيث كنا نرحل ونحن صغارا في السن إلى بلاد اسمها (النصيري) نمكث هناك عدة شهور، وهي شهور لم نكن نرى ما يضاهيها في وسط المدينة، خاصة أنها تحقق لنا الانطلاق من أسر البيت والمدرسة.. أما الذين لا يملكون القدرة على الرحيل الطويل إلى الحقول هرباً من لهيب المدينة، فقد كنت تراهم يتجهون بأعداد كبيرة من بعد العصر الى البرحة التي أمام مسجد الغمامة، حيث هناك تقف باصات صغيرة، لا تكاد تهدأ، وهي تقطع الطريق جيئة وذهابا من ذلك الموقع وإلى قباء فقط، كنا نطلق عليها (الأنيسة) وقد اشتق هذا الاسم من كون هذه المركبة تجمع اعدادا كثيرة من الناس، يقضون أوقاتهم في الضحك والدردشة في ذهابهم وعودتهم من قباء، فلم يكن الناس في ذلك الوقت يعرفون السيارات الخاصة حتى التاكسي كان نادرا، فقد كانت المدينة من الصغر، بحيث إن ساكنها لا يحتاج إلى سيارة تنقله من منزله إلى مكان عمله أو مدرسته، حتى المشوار إلى قباء كان الحفاة من أبناء المدينة يقطعونه مشيا على الأقدام، حيث لا يستغرق من مسجد الغمامة وحتى مسجد قباء أكثر من نصف ساعة، لكن المرفهين الذين يملكون الربع ريال قيمة ركوب (الأنيسة) لا يترددون في ركوبها، فمنها تبدأ رحلة المتعة إلى هناك، وكان الطريق الذي تسلكه (الأنيسة) واحدا لا غير، يبدأ من طريق قباء وينتهي إليه، الآن يوجد طريق قباء الطالع وطريق قباء النازل، وطريق قربان، وطريق الحزام وغيرها من الطرق التي تمر في منطقة قباء.
|