في العدد (11572) من صحيفة الجزيرة وفي صفحة (عزيزتي الجزيرة) تحديداً عنّ لي مقال جابه يرد فيه كاتبه (أحمد بن عبدالعزيز المهوس) على مقال لي كنت رددتُ فيه عليه، ولما أن بدا أول ما بدا خلته ذا سلطانٍ مبين وحجة قاطعة، لكني وجدت الأخ قد رجع إلى معجمين أو نحوٍ من ذلك ثم جعل يحاجنا بهما ويلزمنا بما فيهما، وكأنما هي حجة الله على الناس في اللغة، وأيّاً ما يكن فإني سأتعقبه بردودٍ أعمد فيها إلى الوجازة والاختصار ما استطعتُ، على أني لم استقصِ المسائل بالبحث لأني أضن بوقتي أن يذهب في إبطال هذه الآراء ونقضها وهي بيّنة مكشوفة لمن رزق حظاً من الفهم يسيراً، ولولا أن يظن بعض القراء أني بُهرتُ وأُفحمتُ وأن رأيه صائبٌ ما كلفتُ نفسي الرد عليه، ولا إفهامه:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر
ضعيفٍ ولم يغلبك مثلُ مغلّب
ولما كان أخذ القليل خيراً من ترك الجميع (كما قال ابن المقفع) فإني سأكتفي باللمحة الدالة والإشارة المقتضبة إلا فيما يحسن فيه الإطالة والإطناب!
وأنا لا يهمني أن يقتنع الراد برأيي، لأن الهوى ميّال، والنفوس مطبوعة على المشاقة واللّجاج، ولكني أقدم حججي إلى القراء كيما يعرفوا هم بأنفسهم الحق، والحق أبلج، والباطل لجلج!
وأنا الآن راد عليه ومبين بعض أخطائه الفاحشة في البحث والتحقيق والمنهج العلمي، إنما هو الافتقار والمتابعة وحسب، وليس ينبغي للبيب الفطِن النطِس أن يسلم عقله وفهمه إلى كل أحد، ولا أن يقع منه كل قول سابق موقع الرضا والقبول ولو مُحق بهدى وبرهان، ذلكم أني أخشى أن يكون الأخ - وفقه الله - قد خُدع بالاستسلام التام لهذه المعاجم المحدثة التي تحاول تصويب بعض الأخطاء الشائعة، والقولُ الحقّ إنها كغيرها يعروها الخطأ والصواب، لأن أصحابها قرءوا في المعاجم وفهموا كما نحن، فليس لأحدٍ أيا يكن أن يكرهنا على الإيمان بصحة ما فيها ولا أن يحتج بها علينا، مع أني لا أدفع الاستئناس بها والاستفادة منها!
ثم ها نحن أولاء نلج عظم الموضوع وصُلبه فنقول:
1 - ذكر الأخ أني رجعتُ إلى معجمين لغويين لأقوي بهما رأيي، يريد (لسان العرب) و(القاموس المحيط) وإنما اكتفيتُ بذلك ثقة بحسن فهمه ورجاحة عقله، لكني الآن أعود عن ذلك معتذراً، واتخذ لي مذهباً آخر، حيث سأرد على الأخ على مقدار فهمه، ولن أحمله ما لا يطيق، ومن أجل هذا فإني - بإذن الله - ذاكرٌ ما تحق به الحجة ويتم به البلاغ!
2 - زعم أني أحلت إلى المعاجم قاطبة بقولي: (وغيرها من المعاجم) ولست أدري كيف يفكر الأخ، ولا بأي لغة يفهم، وإلا فهل (غير) كمعنى (كل)؟!
فيا هذا: إن بين (كلّ) و(غير) فرقاً، ف(كل) تعني الإحاطة والشمول، أما غير فتعني وجود شيء آخر غير ما ذُكر، فقولي: (وغيرها من المعاجم) لا يعني كل المعاجم، إنما يعني أن ثمة معاجم أخرى ذكرت ما قدّمت!
3 - إني ليحزنني أن أرى من الناس من قرأ له كتباً قليلة في الأدب الحديث وقرن بها ما استيسر مما كُتب في الأخطاء اللغوية الشائعة، ممن لم يُذكر أصحابُها بسابقة ولا إمامة، ثم أنحى على أئمة العربية وأساطين البيان، وأنشأ يقدح بهم زوراً وكذباً، ويحاول إسقاطهم حتى إذا ما سقطوا لم يبق في اللغة مستمسكٌ راسخٌ ولا مرجعٌ أثين، وهذا ما يلقى الأكابر من الأصاغر (كما قال الطناحي - رحمه الله -) وما كان ينبغي لناشئة في الأدب حديث عهدٍ بملابسته أن يجترئ على مسائل هي من وظائف الأكابر العالِمين!
وقد قال الأخ - غفر الله له - منكراً من القول وزوراً، حين دفع الاحتجاج بما في اللسان زاعماً أنه ليس بحجة وكذا القاموس!!
وهذا قول من يستغفل القراء، والردُّ عليه من وجوه:
الأول: نقول: أجل، ليس كلام ابن منظور بحجة، ولكن نقله حجة، فهو لم يأتِ بشيءٍ من تلقاه نفسه! (وقد قال فيه الزركلي في الأعلام: هو الإمام اللغوي الحجة)!
الثاني: أن ابن منظور بنى كتابه على خمسة كتب وزاد عليها من لدنه، وهذه الكتب هي (تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سيدة، والصحاح للجوهري، والحواشي عليه لابن بري، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير) فلو انا سلمنا ان ابن منظور ليس بحجة، وأن كتابه ليس بشيءٍ، وأنه لا يؤمن أن يكون زاد فيه ما لم يرد عن العرب، فماذا تقول إذا كان ما ذكره ثابتاً في أصول الكتب التي أخذ منها، بل وفي غيرها من المعاجم والأشعار والاستعمالات؟!!
وأنا الآن سأردُ عليك (بعض) أسماء الكتب والأشعار والاستعمالات لكلمة (بال) بمعنى القلب أو الخاطر أو النفس، أي أني سأثبت ان هناك أصلاً آخر غير (الحال والشأن) كما تزعم، منها ما هو للاحتجاج ومنها ما هو للاستئناس حتى يكون أبلغ في الحجة - مع أني أكاد أوقن أن الأخ لا يعرف أكثرها -:
فقد وردت كلمة (بال) بغير معنى الحال والشأن - وتذكر أني لم أستقصِ - في كتاب العين للخليل بن أحمد (وكفى به حجة) ولسان العرب لابن منظور (كما أسلفت وما زال العلماء والمحققون والباحثون ينقلون منه ويأخذون عنه من أول ما ألّف حتى عصرنا هذا، وقد عدّه محمد العدناني الذي تتبع قوله من المصادر الموثقة) وفي القاموس المحيط للفيروز آبادي (وهو كمثل اللسان) وفي تاج العروس للزبيدي (وهو أكبر معجمات اللغة، وصاحبه من كبار العارفين باللغة حتى كأنما ولد في عصر غير عصره) وفي الصحاح للجوهري (وقد نبّه السيوطي في المزهر إلى أنه أول من عُني بالصحيح دون غيره)، وفي مختاره للرازي، وفي معجم مقاييس اللغة والمجمل أيضا لابن فارس (وهو مثلُ الجوهري في حرصه على إيراد الصحيح وتحرجه من إيراد ما لم يثبت، وارجع إلى ما ذكره شيخ المحققين عبدالسلام هارون في مقدمة كتاب المقاييس)، وفي تهذيب اللغة للأزهريّ، وفي المحكم لابن سيدة، وفي المحيط للصاحب بن عباد، وفي متن اللغة لأحمد رضا، وفي المصباح المنير للفيوميّ، وفي المعجم الوسيط أيضا، وهي كذلك في تفسير البحر المحيط لأبي حيان النحوي (تفسير الآية الثانية من سورة محمد) ولعلها في غيرها مما لم أطلع عليه!
وأما من الأشعار - منها ما يحتج به ومنها ما يستأنس به - فقول عبيد بن الأبرص:
قد بت ألعبها وهنا وتلعبني
ثم انصرفت وهي مني على بال |
وعلى قول الأخ يكون تفسير العجز هكذا (ثم انصرفت عنها وهي مني على حال وشأن!!!!).
وقال مازن بن الغضوبة الطائي - وهو مخضرم -:
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا
ولم يكن دينه مني على بالي |
كما ورد مثل هذا لمجنون ليلى وأبي العتاهية والشريف الرضيّ وغيرهم، وما ذكرتُ تمثيل لا حصر!
وذكره ابن الأعرابي في نوادره، والمبرّد في الكامل، والجرجاني في أسرار البلاغة، والحريري في مقاماته، والمرزوقي في أماليه، والجاحظ في البخلاء والبيان والتبيين والحيوان وفي رسائله، وأبو حيان التوحيدي في البصائر والذخائر ومثالب الوزيرين والصداقة والصديق، والهمدانيّ صاحب الألفاظ الكتابية صفحة (84)، وابن المقفع في كليلة ودمنة، وابن رشيق القيرواني في العمدة، وأبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال، والبغدادي في خزانة الأدب، والزمخشري في ربيع الأبرار، والمرزوقي في شرح ديوان الحماسة، والرافعي في السحاب الأحمر - الفصل الأول - الحاشية، وعبدالسلام هارون في العثمانية (27) الحاشية، والعلامة الميمني الذي قال فيه صاحب (ذيل الأعلام): من أكبر علماء اللغة في عصره، فقد ذكر هذا في مقدمة كتاب (المنقوص والممدود)، وما لم يُذكر أعظم وأكثر!!
ولولا مخافة أن أطيل لأوردتُ أرقام صفحاتِ المواضع كلها!
وهأنذا سقت طائفة كبيرة من الشعراء والعلماء الذين ذكروا أنّ للبال معنى آخر غير الشأن، وأعرضت عن كثيرٍ اكتفاء بهؤلاء، ولعمري إني لاستحي أن أبيّن أمراً بيّناً، ولكن ما حيلتي فيمن عمي عليه هذا الأمر البيّن؟!
وكيف يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل ؟!
والأخ زوى المسألة كلها في (اللسان) و(القاموس) فظن انه إذا قدح فيهما لم نجد من يقرر هذه المسألة ويثبتها، وقد رأى آنفاً كثرة المعاجم والعلماء الذين أوردوا ذلك، فما رأيه وما رأي القراء الأكارم؟!
وأعيد قولي السابق: (ولو أنه رجع إلى ما شاء من المعاجم لكفى نفسه مشقة كثير مما انتقد)!
4 - إن الكاتب اتخذ من صاحب كتاب (تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة) حجة في العربيّة على الناس - كما قدّمنا -، فكلما جاءه أمرٌ من اللغة ردّه إليه وإلى من هو مشاكله من المحدثين، ولو ردّه إلى أئمة اللغة والحذاق بها لاستقام على سواء الصراط، ولكن هكذا يصنع المنهج الخاطئ بصاحبه، ويحسنُ فيما ها هنا ان نستأنس بما قاله الإمام ابن قتيبة الدينوري في مقدمة أدب الكاتب: (فإني رأيت كثيراً من كتاب زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة واستوطؤوا مركب العجز، وأعفوا أنفسهم من كد النظر وقلوبهم من تعب التفكر.. ولعمري كان ذلك فأين همّة النفس، وأين الأنفة من مجانسة البهائم؟!) فكيف لو رأى حال كتّاب زماننا؟!!
وهنا سؤال قد يرد، وهو لماذا ترك الأخ كل هؤلاء العلماء الجلة، وأنكر منقولهم، وزعم أنهم ليسوا بحجة، ومع ذلك أخذ بقول رجلٍ هو أدنى ألا يكون حجة وألا يُقبل منقوله، بل هو من المعاصرين الذين لم يشتهروا بعلمٍ ولا إمامة؟!
لا جواب إلا أن نتذكر أن الهوى مركبٌ جموحٌ لا يزال يذهب بصاحبه كل مذهب، ويلفته عن الحق المبين، وهو لا يتلبس به صادقٌ أمين، وآمل ألا يكون صاحب الردّ قد وقع في شيءٍ من هذا، وإن كان وقع فلينزع عنه، فإنه مفضٍ إلى عقبى لا تسرّ، وقد قال عمر - رضي الله عنه - ( فإن الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل) وإن كان يرى هذا الراد انه خُدع بما قرأه، وأنه أسلم إليه مقوده دون تحقق وتثبت وتلبّث، ومن غير أن يقابل ما قرأه فيه على المعاجم الضخمة فما زال بيده الخيار، ولا يأخذنه الأنفة والتعاظم عن الرجوع، وإلا فما معنى أن يأخذ بكتاب (تطهير اللغة) ويدع (لسان العرب والقاموس المحيط) ألأنهما ليسا بحجة؟ فكذلك (تطهير اللغة) بل هو أولى بلا ريب، أم لأنهما لا يوافقان هواه، وأن هذاك وافق هوى في نفسه فتمكن؟!
ثم يزعم الأخ أن (المعجم الوسيط) لم يذكر في البال إلا أنه للحال والشأن فهذا باطل بواح، وقد رجعتُ إليه (في الطبعة الثانية) فوجدته يذكر أن البال بمعنى الخاطر، فلِمَ هذا التلبيس؟!
ثم لو سلمنا أن (المعجم الوسيط) لم يذكر ذلك، فهو ليس بحجة كما زعمتَ أنت من قبل، وهو أولى بهذا الوصف من (اللسان) و(القاموس)! أم أنك تكيل بمكيالين؟!!
ثم يزعم انه مدّ يده إلى معجمين، هما المعجم الوسيط وتطهير اللغة، وهذا لا يسلم له، فأما المعجم الوسيط (في طبعته الثانية) فذكر هذا، فهو قد علم الآن، فلننظر هل يتبعه ويقبل منه أن (البال) يأتي بمعنى الخاطر ونحوه، كما اتبعه من قبل أم أن الهوى سيمنعه، ويلقي معاذيره؟!
وأما كتاب (تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة) فلم أطلع عليه، فإن يكن ورد فيه ان (البال) لا يأتي إلا بمعنى الحال والشأن فهو أولاً ليس بحجة البتة، ثم إنه ليس بمعجم يُرجع إليه عند الاختلاف، أفلا تعرف من معاجم اللغة الكثيرة كلها إلا هذا - إن كان معجماً - ؟!!
ثم إذا كان الأخ قد أسقط اللسان والقاموس زاعماً أنهما ليسا بحجة فمن ذا الذي هو حجة؟!!
وبعد:
فلو أنا سلّمنا جدلاً بنفي كل معنى عن (البال) غير الحال والشأن - ولا يصحّ - لو سلمنا بأنّ لهذا وجهاً في العربية سائغاً وان جملة من أهل العلم والحذاق قالوا به - ولم يكن - لكان في إنكارك على ابن بخيت شطط وتضييق لما هو واسع، لأن القولَ بالمعاني الأخرى هو قولٌ وجيه أيضا حيث قال به كثير من أهل العلم، هذا على التصور والافتراض، وإلا فلم يكن، وسأنقل لك من بعد قولاً حسناً في إنكار إلزام الناس بقولٍ خلافي، فكيف إذا كان القول مجمعاً على نقيضه؟!
فيصل بن علي المنصور - بريدة
|