Tuesday 6th July,200411604العددالثلاثاء 18 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

الحب بين الإحساس والتجربة الحب بين الإحساس والتجربة
وسيلة محمود الحلبي

معذرة للمؤلف الأستاذ فايز سليم الفاضلي البلوي حيث استعرت عنوان كتابه ليكون عنواناً لمقالتي هذه.. الحب بين الإحساس والتجربة.
ما أروع هذه الكلمة وما أبدعها، وما أدفأها، إذا أعطيت حقها فعلاً من العطاء والإخلاص والوفاء والولاء والمعنى الصحيح لها.
فالحب هو الحب في الله، والحب في الدين، والحب في الأهل، والحب في الولد، والحب في الصحبة الطيبة. ويبقى الحب في الله هو الأبقى والأفضل والأنقى والأجمل والأبهى والأكمل.. لأن الذي يحب في الله .. يكون قلبه نقياً وصفحته بيضاء، وعقله فطنا، لا يسيء لأحد ولا يضر أحداً، ولا يبتعد عن أمور الدين.
والحب بكل درجاته شعور نبيل وطيب حيث تصفو النفوس وتلتئم الجراح، وتنقى القلوب من الشوائب، وتحترم الأفعال والأقوال والمواقف على السواء.
فالحب إحساس يخالج شعور الإنسان وهو صعب التفسير في غالب الأحيان وقد اعترف فيه كل من العالم والفقيه والقاضي والشاعر والوزير والسياسي والحاجب والخادم.. وأدبنا العربي مملوء بتعريف الحب.. فالمحبة أصلها الصفاء، لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان، وقيل مأخوذ من (الُحبَابْ) وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد، بمعنى أن هذه المحبة غليان القلب وثورانه عند الاحتياج إلى لقاء المحبوب، وقيل: مشتقة من (اللزوم والثبات) ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم؛ قال الشاعر:


حلت عليه بالغلاء ضرباً
ضرب بعير السوء إذ أحبا

فكأن المحب قد لزم قلبه محبوبته فلم يرم عنه انتقالاً، وقيل بل هو مأخوذ من القلق والاضطراب، ومنه سمي القرط حِباً لقلقه في الأذن واضطرابه؛ قال الشاعر:


تبيت الحية النضناض منه
مكان الحب تستمع السرارا

وقيل بل هو مأخوذ من (الحب) جمع حبة، وهو لباب الشيء وخالصه وأصله، فإن الحب أصل النبات والشجر، وقيل بل مأخوذة من (الجب) الذي هو إناء واسع يوضع الشيء فيه فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبه.
وقيل مأخوذ من (الحُبِّ) وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من صرة أو غيرها، فسمي الحب بذلك لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال، كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها.
وقيل مأخوذة من (حبة القلب) وهي سويداؤه، ويقال ثمرته فسميت المحبة بذلك لوصولها إلى حبة القلب، وذلك قريب من قولهم: ظهره إذا أصاب بطنه، أما الحب بكسر الحاء فلغة في الحِب، وغالب استعماله بمعنى المحبوب.
جاء في (الصحاح): الحب المحبة، وكذلك الحب بالكسر، والحب أيضاً الحبيب مثل خِدن وخدين ويقال: أحبه حباً ومحبة والمحبة أم باب هذه الأسماء قال أبو بكر الوراق:
سأل المأمون عبد الله بن طاهر ذا الرياستين عن الحب ما هو؟
فقال: يا أمير المؤمنين: إذا تفادحت جواهر النفوس المتقاطمة بوصل المشاكلة، انبعث منها لمحة نور تستضيء بها بواطن الأعضاء فتتحرك لإشراقها طبائع الحياة فيتصور من ذلك خلق حاضر للنفس، متمثل بخواطرها يسمى الحب.
وسئل حماد الراوية عن الحب ما هو؟ فقال: الحب شجرة أصلها الفكر وعروقها الذكر، وأغصانها السهر وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنية. وقال معاذ بن سهل: الحب أصعب ما رُكب، وأسكر ما شُرب، وأفظع ما لُقي، وأحلى ما اشتُهي، وأوجع ما بطن، وأشهر ما عُلن؛ قال الشاعر:


وللحب أفنان إذا صرحت
تبدت علامات لها غرر صفر
فباطنه سقم وظاهره جوي
وأوله ذكر وآخره فكر

وقيل: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك سرفاً، قال بشار بن برد:


هل تعلمين وراء الحب منزلة
تدني إليك فإن الحب أقصاني

وقال آخر:


أحبك حباً لو تحبين مثله
أصابك من وجد عليّ جنون
لطيفاً مع الأحشاء أما نهاره
مذمع وأما ليله فأنين

قال أعرابي: إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن ولا يظهر الود السليم إلا من القلب السقيم.
وقال آخر: من جمع لك من المودة الصادقة رأياً حازماً فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة.
(وحد المحبة) - كما قال الحصري - وصول إلى مقام الأمن والنعمة باطناً والوحشة والبلاء ظاهراً بشرط الإسراف على الغيوب، وفناء الكل مع بقاء المحبوب.
وقد سئل الجنيد عن المحبة فقال: هي الصفاء في الباطن مع حقائق الحق والوفاء في الظاهر مع استعمال دقائق الشرع.
وقيل: المحبة أرق بلا رقاد، وجسم بلا فؤاد، وتهتك في العباد، وتشتت عن البلاد.
وقال داؤود الأنطاكي: إن المحبة ميل نفساني إلى المراد يعضده الجزم بالاعتقاد ورؤية ما سوى المطلوب من الفساد، وفي الدين ارتداد، وإليه أشار عارف الوقت والحقيقة، وسلطان عشاق الخليقة:


ولو خطرت لي سواك إرادة
على خاطري سهواً قضيت بردتي

وأنا أقول:
في عمر الحب لا تذبل أبداً الزهور، ولا تنضب أبداً العطور، ولا يهدأ الشوق، ولا تهاجر الطيور، ولا يجمد الدفء، ولا يغيب النور في عمر الحب لا يحزن القمر، ولا يأتي الشتاء لتغيب فيه الشمس، وإنما تحتضن بأشعتها البحور.
فالحب وقت صعب، أن يصطحبك إلى الطبيب ويمسك يدك بحنان، والحب فراق. أن يبتعد عنك قليلاً لأن المحبة لا تعرف نكهتها إلا ساعة الفراق، والحب لقاء، ولهفة، وشوق؛ لأن البعد يقسي القلوب، والحب معرفة؛ أن تجعل نفسك مفهوماً من الطرف الآخر ككتاب مفتوح، والحب غموض؛ أن تجعله دوماً يريد أن يعرف من أنت وكيف تغيرت، والحب تغيير؛ حتى في التصرفات، والتعبير ولكنه ثبات في المبدأ والقيم، والحب أنانية وحب للتملك، والحب انكسار للذات وحرية مطلقة للمحبوب، والحب أخذ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والحب عطاء غير متناه ونصيحة للمحبوب، والحب أن يبكيك المحبوب إن أخطأت، والحب أن يكفكف دمعك إن زعلت، والحب ثقة بشخصيته، بقدرته بنفسه، والحب شك لا يقبل إلا باليقين، والحب غيرة عمياء لكنها غير مدمرة، والحب دلال؛ فلقد عرف المحبوب مكانته فتدلل، والحب قسوة على من تحب ليدرك كم كان بين يديك مدللاً.
والحب قبول؛ أن تتقبل الشخص كما هو، فلا تريد أن تبدل فيه، والحب رفض لكل ما لا تقبله نفسك من عيوب المحبوب، والحب انسجام ما بين اثنين، والحب تسامح؛ فبالتسامح تصفو القلوب، والحب لا يخلو من عقاب؛ ليعرف المحبوب قدر نفسه؛ لأن الحب احترام وحواجز لا يمكن لنا أن نتعداها؛ فالحب يصيرنا في واحد، ولكنه لا يلغي خصوصيات أحدنا ولا ينفي شخصيته من أجل الآخر، والحب صمت متفهم من دون أن يتكلم المحبوب، والحب أذن نستمع له، والحب عين نفهم لغتها، والحب روتين ولكنه يرفض الملل والتكرار، والحب رفقة وصداقة وتفهم، والحب لا يؤمن بزمن أو بوقت أو بعمر.. والحب لا يؤمن بطبيعة اجتماعية وشرعية ثقافية.. مجنون هو الحب ولكنه عامل فالحب عقل وعاطفة، والحب شئنا أم أبينا أكسجين الحياة، ينعش بعضنا، وأحياناً يميت بعضنا، فعند كل واحد منا تعريف للحب، ولكن لكل منا تجربته معه؛ وسيبقى الحب تجربة شخصية لكنه يبقى ما بقينا.
فلنعمر حياتنا بالحب، ونبنيها على أساسه؛ فنحب الخير للجميع، قال - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى)؛ فالحب يقوي الإرادة ويثير الوجدان ويجعل الحياة رغيدة سعيدة فيهدم كل العقبات والصعاب ويحولها إلى قوة لتحقيق المستحيل.
قال الشاعر:


ما أحببتها فحشاً ولكن
رأيت الحب أخلاق الكرام

وقال آخر:


تملكتم عقلي وطرفي ومسمعي
وروحي وأحشائي وكلي بأجمعي
وتيهتموني في بديع جمالكم
فلم أدر في بحر الهوى أين موضعي

وإذا أحب المرء أحداً أحب لأجله كل أهله ومعارفه وأصدقائه وداره وبلدته.. قال عبد الله بن الدمينة:


أحب بني العوام طهرا لحبها
ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا

وقال آخر:


فيا سكن أكناف طيبة كلكم
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

والعشق هو أعلى درجات الحب فهو سمو بالنفس وعلو بالهمة ورفعة بالشأن وإحساس لا يعرف المحبوب كنهه.
سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟
فقال: سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه؛ قال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب ملك مسالكه ضيقة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطى عنان طاعتها، وقوة تصريفها، توارى عن الأبصار مدخله، وخفي عن القلوب مسلكه.
ويرى الأصمعي: أنه (إذا تفادحت الأخلاق المتشابهة وتمازجت الأرواح المتشابهة، ألهبت لمح نور ساطع، يستضيء به العقل، وتهتز لإشراقه طباع الحياة، ويتصور من ذلك النور خلق خاص بالنفس متصل بجوهريتها يسمى العشق).
وقال علي بن الهيثم: (العشق ثمرة المشاكلة، وهو دليل على تمازج الروحين، وهو بحر من اللطافة ورقة الصنعة، وصفاء الجوهر، والزيادة فيه نقصان من الجسد).
وقال أبو إسحاق بن إبراهيم: أرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم رقيقة خفيفة، نزهتهم المؤانسة، وكلامهم يحيي موات القلوب، ويزيد في العقول، ولولا العشق والهوى لبطل نسيم الدنيا.
قال الشعبي:


إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فأنت وعير بالفلاة سواء

وقال آخر:


إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فقم اعتلف نبتاً فأنت حمار

وقال الكميت:


ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها
فيما مضى أحد إذا لم يعشق
العشق فيه حلاوة ومرارة
فسأل بذلك من تطعم أو تذوق

والعشق يختلف عن الحب؛ إذ إن الحب يكون مشتركاً بين اثنين، والعشق من طرف واحد، وغالباً ما يخالط العشق العفاف.


أحبك يا سلمى على غير ريبة
ولا بأس في حب تعف سرائره
أحبك حباً لا أعنف بعده
محباً ولكني إذا لم عاذره
وقد مات قلبي أول الحب مرة
ولو مت أضحى الحب قد مات آخره

وقال قيس بن الملوح:


يسمونني المجنون حين يرونني
نعم بي من ليلى الغداة جنون

وقال:


وبي من هوى ليلى الذي لو أبثه
جماعة أعدائي بكت لي عيونها
أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني
فقد جن من وجدي بليلى جنونها

ومن المحبين العاشقين أمثلة كثيرة في بلاد العرب، منها: قصة قيس وليلى، وعروة بن حزام وصاحبته عفراء، وجميل بثينة، وامرؤ القيس، وكعب بن زهير، وعمر بن أبي ربيعة، وأبو نواس، وابن زيدون، وأحمد شوقي، وغيرهم كثيرون .. كثيرون.. كثيرون.
لحظة دفء:


تبقى أرضي وسمائي ومائي
تبقى غذائي.. غذاء الروح والعقل
تبقى وحدك فقط حبيبي...
تبقى ردائي..


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved