ذكرت دراسة حول التنمية البشرية المستدامة وعلاقتها بالتعليم ان النقاش الدائر حالياً حول التنمية ما هو إلا مرحلة أخرى من المراحل التي بدأت في منتصف الستينيات في محاولة لتوسيع مجال عملية التنمية حتى ظهر المفهوم الإنساني القائم على التنمية البشرية المستدامة والذي يغطي أغلب الأبعاد المتعددة لعملية التنمية، وقد انبثق المفهوم الاصلي للتنمية بعد الحرب العالمية الثانية حتى تبلور مفهومها على انها عملية نمو اقتصادي بحت وكحل تقني يقوم على أساس عمليات اقتصادية تحدث تغييرات هيكلية في البنية الاقتصادية للمجتمع وفي أساليب الإنتاج المستخدمة، وكذا توزيع عناصر الإنتاج بين القطاعات الاقتصادية المختلفة. ووفقاً لهذا التصور تصبح عوامل تخلف أي مجتمع وركوده الاقتصادي تكمن داخله وليست خارجة عنه ويصبح مفتاح تنمية اي مجتمع في أيدي الأفراد المتعلمين والمدربين وبذا يكون التعليم هدفاً أساسياً لتحقيق هذه التنمية. وتشير الدراسة الى ان هذا الوضع قد لفت الانتباه الى منظومة التربية التي توحدت مع التعليم النظامي باعتباره أداة لاحداث تلك التنمية بأسرع ما يمكن.
وصارت تنمية التعليم نشاطاً يدعم ويعجل التنمية من خلال التوسع في المؤسسات التعليمية لإعداد جيل من العمالة المهرة في كل قطاعات الإنتاج والخدمات وتعزيز المعرفة في الميادين النظرية والتطبيقية وإنتاجها والاستفادة منها، وعليه تمت اعادة تنظيم المؤسسات التعليمية لا سيما التعليم العالي والتعليم الفني والمهني بشكل يتناسب مع اعتبار التعليم العصا السحرية للتنمية الذي يضمن للأمم احداث تنمية سريعة بالتركيز على استثمار الموارد البشرية ولعل الذيوع والانتشار القوي لنظرية رأس المال البشري في اوائل الستينيات قد زاد من الاقتناع النظري بدور القدرة الإنتاجية للموارد البشرية في العملية التنموية واعتبارها رأس مال مستثمر. فالتعليم في ذاته من وجهة نظر أنصار هذه النظرية استثمار إنتاجي وبالتالي هو ليس بمثابة نجاح اقتصادي للأفراد فقط بل هو في الوقت نفسه مصدر رئيسي لتوفير فرص عمل أكثر ومن هنا فإن المجتمع المتعلم يستطيع ان يقدم القوى العاملة الجيدة واللازمة لسوق العمل من أجل تطويره وتنميته صناعياً واقتصادياً، وفي بداية الستينيات دعت المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة الى العقد الأول للتنمية، واعتبرت خلاله ان التعليم هو الأداة الرئيسة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والاسراع بها وانه بمثابة العصا السحرية في أيدي السياسيين وصانعي القرارات لتحقيق تقدم المجتمع وتحديثه، وبنهاية الستينيات واوائل السبعينيات تزايدت الشكوك حول المفهوم الاقتصادي للتنمية كنتيجة للنتائج المحبطة له حيث لم تصل نتائج التنمية الى الغالبية العريضة من الجماهير المستهدفة بل تفاقم فقرها ولم تتحقق العدالة الاجتماعية ولم تشارك الجماهير في صناعة القرارات التنموية ولم تلب حاجاتها المادية وغير المادية وزادت معدلات الأمية وانتشر المرض وساء تصيب الفرد من الطعام وضاقت فرص العمل وزادت البطالة وانخفضت انتاجية العمل وبحسب الدراسة فقد تأكد فشل الفكرة الرأسمالية التي طالما ادعت ان الرخاء يتساقط رذاذاً على قاعدة المجتمع فيقلل التفاوت الطبقي ويقضي على الفقر تدريجياً والمتتبع لأدبيات التنمية يلاحظ ان احد الأسباب الرئيسة وراء ذلك، بالإضافة لأسباب أخرى عديدة، هو غموض مفهوم التنمية ذاتها واختلاطه بعدة مصطلحات غير تاريخية احياناً وغالباً ما تنتهي بشكل سياسي فهناك كلمات عديدة تعنى تنمية مثل التحديث والتقدم والتغير الاجتماعي والتحضر... إلخ وبعضها من مفردات نظريات رأس المال البشري وأغلبها من نظرية التحديث، وقد أدت هذه المفاهيم الملتبسة والغامضة التي تنفي باستمرار الثقافة التقليدية والاقتصاد التقليدي والمؤسسات التقليدية، وهذا الغموض أدى الى تجاهل الخصوصية التاريخية لشعوب ومجتمعات العالم النامي، كما أدى أيضاً إلى وقوع نظرية التنمية في شرك التشويه والاختزال فشوه مفهومها واختزلت عملياتها ومؤشراتها، وعلى الله الاتكال.
|