كانوا يهتفون بحياته والفداء له، وكان يقف كالجبل الثلجي الذي يزول مع حرارة الشمس، وكانت دورة الأيام تعطيهم الحق في أن يقبِّلوا منكبه وأنفه وحتى يده الكريمة، وقد يكون لهم عذر ونحن نلوم، فقد قيل لهم (يد لا تقدر عليها صافحها!!) فكانت يده يد بطش وإجرام لم يكن له وحده، بل كانت معه أيدٍ قذرة عذَّبت الخلق تحت سماء الخالق، صمت الكل، وهتف الأكثر بسلامته وطول عمره المديد، لكنه سقط كظرف استثنائي في زمن استثنائي أيضاً.كان فعلاً مجرماً، ومثله المجرمون كثر أيضاً، وكان سجن أبو غريب قريباً من صالة المحكمة التي جاءوا به مقيداً إليها، هذه المرة جاء مكتوف الأيدي، فلا يستطيع أن يلوِّح للنشامى وأهل النخوة العربية، لأن الكل لم يعد يحب التلويح أبداً، فالأيدي تهتز من التلويح، بل صارت تحت الآباط تطلب السلامة مما وقع فيه الثور الأشهب الآن.
وقف أبو عدي، ثم جلس ناشف الشفتين واللسان، كان فيما مضى بليغاً، وأصبح الجفاف المحيط به يوحي له بأن زمن الرخاء والتلويح والقوة واليد التي على الزناد قد انشلَّت، ومثلما تدين تدان.
هذه نهاية الكبر والجبروت الآدمي المسكين، فقد أولاده وفقد عزَّة ظن أنها قعساء وأصبحت تعساء إلى الأبد، كانت عيانه تطير شراراً، وأصبح أمام شاب في سن عدي لامع العينين وتكادان أن تدمعا، لسان حاله يقول: اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال، ولكنه ما تذكر هذا إلا اليوم في محاكمته فقط، لأن الشاب قال له بقوة لم تكن فيه أيام أن كان أبو عدي ينادى فخامة الرئيس، قال له اصمت ولا تشتم أحداً في المحكمة، أو هكذا قال، ولم يضع أبو عدي يده على الزناد وينفذ.
ماذا يدور في خلد الرئيس (طبعاً سابقاً) وهو على كرسي المحكمة بعد أن جلس صاغراً؟ لا ندري، لكنه هو يدري.
الكل شاهد المحكمة بدون صوت، لكنها محاكمة القوي للذي كان قوياً ثم أصبح أضعف من الضعيف، وبجوار المحكمة سجن (أبو غريب) الذي لم تأخذ محاكمة من أهدروا كرامة المسلمين والمسلمات فيه وهجاً مثل هذه المحاكمة، وأيضاً كان طارق عزيز الذي قالت عنه مراسلة ال(سي.إن.إن) إنه إنسان متحضر، وهي توحي للمشاهد المسلم أن ذلك المسيحي متحضر لا يعرف الطريق إلى الظلم كما فعل صدام المسلم، يا للتناقض حتى في الحديث عبر سلك الهواء!! ثم هي توحي إلى القضاء بما يشبه الأمر من القوي للضعيف أن طارقاً يجب أن يخرج بريئاً مما ألصق به!! أما صدام المسلم فيجب أن يُدان.
نحن نتفق على أن صداماً كان طاغوتاً وجبَّاراً، ونتفق على أنه عذَّب أمة كبيرة هي العراق، لكن الذي لا نتفق عليه مع الأقوياء هي طريقة المحاكمة وشكلها وإبرازها لتشغلنا عن آثام الرجل الأبيض في العراق بوجه عام، وفي سجن (أبو غريب) بوجه خاص، ثم ألا يوجد صداميون كثيرون حوالي صدام يجب أن يحاكموا، أولهم شارون وآخرهم من أمروا بإهدار كرامة المسلمين في أبو غريب.
لم يعد هناك مكان للعدل الذي ينعقون به لكي يكسروا أنوف المسلمين في كل مكان، ومحاكمة الثور الأشهب تجوز، لكن محاكمة الثور الأبيض لا تجوز.لم يعد هناك معتصم ولا صلاح الدين فالكل ينتظر مصير الثور الأشهب الذي سيقرره الثور الأبيض.
فاكس : 2372911
|