(لم أكن معادياً للعراق، في الحقيقة كنت معادياً قليلا ً للأمريكيين، لكنني الآن أعادي بكل روحي وجسدي ومالي أمتكم وشعبكم ودينكم..) رسالة أرسلها مواطن كوري جنوبي إلى الإرهابيين خاطفي الكوري الجنوبي في العراق على موقع الجزيرة نت قبل قطع رأس الرهينة.
أما بعد أن ظهرت صورة الرهينة مذبوحاً فقد وصل الأمر بالحكومة الكورية الجنوبية أن تعتذر عن استضافة المنتخب العراقي الذي كان سيقيم معسكراً تدريبياً هناك. إنها الصورة المقنع الأقوى والمؤثر الأشد والمسيطر على أذهان المشاهدين.. إنها أيقون العولمة الكبرى كما يسميها صبحي حديدي، أو أسطورة العالم المعاصر كما ينعتها عبد السلام بن عبد العالي.
إنه الخبر الزاخر بالمشاهد الفاقعة.. فإزاء الصورة يعزف المتلقي عن التحليل السياسي المنهجي أو المتعقل، لأن العين هي أشد الحواس تأثراً، فليس من عاين كمن سمع كما قالت العرب، أو صدِّق نصف ما ترى ولا تُصدِّق ما تسمع كما يقول الإنجليز. فالعين، إن صدقت الصورة، لا تحتاج إلى دليل لأنها تشاهد حقيقة ماثلة.. وهنا تأتي خطورة الصورة لأنها تسيطر على الأحاسيس والمشاعر وتمزجها مع الحالة الذهنية مفضية إلى استنتاج يصعب تغييره.
هذا الاستنتاج هو أصلاً انطباع أولي، ونحن ندرك أن الانطباع الأولي كثيراً ما يضلل، عبر التعميم أو تلقي الحدث ناقصاً، والصورة إذا سيطرت على الخبر لابد أن تعطي معلومة ناقصة. ويبدو المتلقي أكثر انفعالاً وتأثراً مع الأحداث العاطفية ذات الصور المبهرة، فلا يصبح لتفاصيل الخبر وسياقاته معنى ذو قيمة؛ ورسالة الكوري الجنوبي السالفة وموقف حكومته الانفعالي مثال حي على ذلك.
صحيح أن الصورة تعطي الخبر صحيحا ناصع الوضوح، لكنها لا تعطي الحقيقة كاملة، وقد تكون حقيقة مشوهة منبتة عن سياق الأحداث وتاريخها، لا تكترث بالحيثيات والمعطيات وسياق الأحداث وما يتداخل معها من صراع المصالح وتناحر الكيانات المختلفة وتاريخها، ليغدو خبر جزئي مبهر الصورة أهم وأكثر تأثيراً من خبر أساسي باهت الصورة.
ونتيجة لذلك تتراجع السياسة كعلم وفن وثقافة منهجية، ويتقدم من يشاء في التنظير السياسي مستنداً على حصيلة زاخرة من المشاهد وحصيلة مبعثرة من كلام سياسي.
فتغدو صور احتفالية تنضح بالعواطف والشخصانية، مثل محاكمة صدام حسين وملامح وجهه ووجوه محاكميه أهم من سياقات القضية، وتغدو أراء أناس بسطاء في الشارع تبزّ أراء محللين محترفين أكاديمياً أو أدبياً.. ألم تقم بعض الفضائيات في تحاليلها الإخبارية بأخذ وجهات نظر وتحليل العامة في شوارع بعض الدول العربية لكي يقرروا ما إذا كان صدام حسين يستحق المحاكمة أم الحصانة دستورياً، وهل هو بريء أم مذنب قضائياً.. وتكاد تستخلص إحدى الفضائيات ببراءة صدام إزاء ما يفعله الأمريكان بناء على تحليل أولئك البسطاء بعد رؤيتهم للمشاهد المؤثرة لتلك المحاكمة أو المسرحية!
والأمثلة لا تكاد تحصى في ذلك.. فالحرب الأمريكية عندما بدأت على العراق كانت مسلسلاً حربياً من صور مع قليل من الكلام المبثوث. تراها في قناة الجزيرة بمشاهد تخص توجهاتها لجمهور معين وتراها في قناة فوكس على نقيضها، ولا تكاد تسمع إلا ما يؤيد المشاهد المنحازة غير التحليلية. فصور فاقعة لصاروخ أمريكي يضرب حيَّاً سكنياً، أو عمارة بها صحفيون، يصبح قصفا مدبراً متعمداً في قناة الجزيرة، ويغدو خطأ في قناة أخرى، ويغيب تماماً في قناة فوكس الأمريكية اليمينية التي لا ترى فيها إلا التفوق الأمريكي الرحيم لصور عن بعد دون مشاهدة ضحايا من المدنيين أو الأطفال. إذن، كم من متلقٍ حدّد موقفه بناءً على المشاهد المراوغة المدسوس بها بضع كليمات، دون إنصات للتحليل؟
ألست ترى الآن نشرة الأخبار في كثير من الفضائيات وخلف المذيع أشكال وصور تغري بمتابعة القناة أكثر من متابعة المتحدث وأخباره؟ ألست ترى المناظر المبهرة للحدث وبالكاد تستمع لما يقال؟ هنا يضيع سياق الأحداث وتراتبها وتداخلاتها وينحصر في صورة الخبر، فيما مضمونه قد لا يتعدى نصف دقيقة يتم خلاله قولبة قناعات وتوجيهها حسبما يأمل معد التقرير الخبري.
إن طغيان الحالة المشهدية والظهور الباهر للأحداث ينذر بخطورة العزوف عن التحليل السياسي المنهجي.. هنا تموت السياسة وتنتصر الصورة.. يندثر التحليل العقلاني الممل ونتآلف مع الاستنتاج الصوري للأحداث.. فتغدو الصورة أهم مصدر للمعلومة وتداعياتها، ويتراجع دور الثقافة السياسية وارتباطها مع المعارف الثقافية الأخرى. لذلك اقترح الأنثروبولوجي أبادوراي خمسة أبعاد للتدفّق الثقافي العولمي: (إثنو مَشاهد)، (ميديا مَشاهد)، (تكنو مشاهد)، (تمويل مشاهد)، و(فكرة مشاهد)، بحيث تصبح لفظة مشاهد عنصراً مشتركاً في خضم التلقي الثقافي. وهذا ما دعا المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه أن يقول: (إذا كان أساس السلطة هو الإقناع، فإن الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله).
الصورة تحتكر الموضوع شئنا أم أبينا، ليس في الجانب السياسي فحسب بل في جميع جوانب الحياة الإعلامية. بل حتى في المجالات التي يسود بها الصوت وتتراجع الصورة، أصبحت السيادة للأخيرة، ألم يتذمر المطرب العريق وديع الصافي من هيلمان الفيديو كليب على الأغنية؟ بحيث لم نعد ندري هل ما يعجبنا هو النغم أم الصورة وحركاتها، في حالة يفترض أن يكون الصوت أساس العمل الإبداعي؟ فإذا استطاعت الصورة أن تنزع المجال الصوتي للأغنية وتجيّره للمجال البصري، فكيف لا تستطيع أن تنزع المجال العقلي للسياسة وتجيّره لها.. إنه زمن الصورة، فمن أراد أن ينافح عن فكرته فعليه الدخول في هذا الزمن!
|