قد تفقد الأشياء المحيطة بك رمزيتها وقيمتها بفعل العادة وتقادم الزمن، ولكنك حتما ستعيد اكتشافها يوما ما، وسيكون ذلك الاكتشاف الثاني أقوى أثرا وأشد وقعا من الاكتشاف الأول. وبرج غيّاض في مدينة قفار مثال رائع للرمز التاريخي الذي يمكننا إعادة اكتشافه.
أهمية الرمز التاريخي
حرص الناس منذ القدم على الرمز باعتباره أيقونة تمثل المعادل الموضوعي لأمر يفتخرون به أو حادثة تاريخية تتوق نفوسهم إلى ذكراها، وتسهم في صياغة هوياتهم وآمالهم.
وتعتز سائر الأمم وتفخر بمواطن كفاحها، فقد جرت العادة أن تكون مثل تلك المواطن رموزا مرتبطة بقيمة أخلاقية شريفة كالشجاعة والبطولة والمروءة ومكارم الأخلاق ونبيلها، وأن تكون تلك القيم ذات مساس مباشر بهوية أولئك الناس وحياتهم اليومية.
والرمز التاريخي الذي نحن بصدده الآن، وهو برج غيّاض، يعد من أوضح الأمثلة وأكثرها انطباقا على أهل هذه المنطقة خاصة وما جاورها من البلاد بوجه عام. ويتضح ذلك جليا من خلال الأحداث التاريخية التي تمس الحياة السياسية لهذه البلاد مسا مباشرا، والبطولات التي ظل هذا الرمز على مر السنين شاهدا عدلا عليها كما سنرى.
للرمز موقع جغرافي
يرمز غيّاض لتاريخ حقيقي من الكفاح لا أثر فيه للوهم أو التخرصات، وهو ليس كالرموز المكانية الأسطورية التي تستقي تاريخها من نفحات الأوهام والأخبار غير الموثقة التي يتناقلها العامة، وحسبك في ذلك وقوفه شاخصاً حتى يومنا هذا يحكي قصة الشموخ عبر الأجيال.
يقع برج غيّاض في قلب مدينة قفار، تلك المدينة التي تتكئ في دعة على السفح الشرقي لجبال أجا في قلب أرض الجبلين بنجد في المملكة العربية السعودية وتمتد إلى وادي الأديرع شرقاً، وتترامى أطرافها على تلك الأراضي المنبسطة الرحبة جنوب غرب مدينة حائل.
قفار التي تحتضن الرمز
كانت قفار قاعدة الجبل فيما مضى، فقد ورد في إحصائية للمستشرق الفنلندي جورج أوجست فالين (George August Wallin) في كتابه (صور من شمالي جزيرة العرب) أن مدينة قفار عام 1262هـ كان يقطنها 500 عائلة، أي أعلى نسبة سكانية في المنطقة، تليها مدينة حائل التي يوجد بها 200 عائلة. ويصفها بأنها أغنى مدن المنطقة وأهلها طبقة أرستقراطية حريصون على أداء الواجبات الدينية ويحجون إلى مكة في جماعات غفيرة.
وهذا أيضا ما أشار إليه المستشرق التشيكي موزل، الذي زار حائل عام 1915م، حين قال إن قفار كانت في وقت من الأوقات أكبر من حائل.
ويقول الشيخ حمد الجاسر في المعجم الجغرافي لشمال المملكة وهو يتحدث عن حائل إن اسم (حائل) لم يطلق على حائل المدينة إلا في عصر متأخر، وكانت الشهرة إلى ما قبل قرنين من الزمان لقفار. (انظر معجم شمال المملكة، مادة حائل).
أما الأستاذ عبد الرحمن السويداء فيقول في كتابه (القهوة العربية): (إن شهرة قفار قد ازدادت من القرن التاسع الهجري حتى القرن الثالث عشر الهجري عندما كانت قاعدة الشمال، وإن معظم سكان مدينة حائل والقرى التابعة لها قد انتقلوا إليها من قفار).
وأما العلامة الموسوعي، أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري، فيقول في مقدمته لكتاب (قفار) للدكتور عبد الرحمن الفريح: (إن لقفار تاريخاً حافلاً، وإن حاضرة مثل قفار في سعتها وخصبها تنتج ولابد تاريخاً حافلا، ولعله يظهر من طي الخفاء ما يزيد علمنا التاريخي بقفار امتداداً من دلالة حفريات أو وثائق أو إشارة مؤرخ لم تلتقطها لماحية المعني بقفار بعد).
ومعلوم أن قفار تفرعت منها بلدان كثيرة وخرجت منها جماعات سكانية غفيرة في بلاد الجبلين فيما بعد.
الحملات التركية تتوغل في الجزيرة العربية
انتهت الدولة السعودية الأولى بتفكك الدرعية وقضى الأتراك على ولاة الدولة السعودية الأولى في نجد (في القصيم وفي حائل) وأحكموا قبضتهم على نجد عام 1234هـ.
لكن حملتهم على قفار تم دحرها بعد أن صمد أهالي قفار واستبسلوا في الدفاع عن البلاد وألحقوا الهزيمة بالقوات التركية على مدى عقدين من الزمان تقريبا (حملة عام 1234هـ، وحملة عام 1252هـ) وساعد على ذلك أن أخفقت حملة تركية أخرى في عام 1237هـ، فلم يكن لتلك الحملات أن تتمكن من البقاء والاستقرار في هذه البلاد.
ولا نستغرب ذلك إذا قرأنا ما كتبه الفنلندي (فالين) عن أهالي قفار، وهو أول رحالة مستشرق زار جزيرة العرب وعاد منها، حيث وصف مهارتهم في استخدام السلاح وأشار إلى ثرائهم الذي مكنهم من تموين الوحدات المقاتلة.
ويقول (فالين) في موضع آخر: (في تجوالي بين بدو الجهات الغربية من شبه الجزيرة كان هؤلاء يسألونني ومثلهم المصريون والسوريون عن أهل قفار وعاداتهم ولغتهم وقاماتهم وميزاتهم الأخرى، وهم يبدؤون بالسؤال عن حجمهم وعما إذا كانت قامتهم أطول من قامة سواهم من العرب..الخ).
وينقل لنا الدكتور عبد الرحمن الفريح في كتابه القيم (قفار) الذي صدر عن الرئاسة العامة لرعاية الشباب، بعض ما ورد في كتاب (نبذة من تاريخ نجد) لضاري الرشيد عن الحملة التركية عام 1252هـ وسيطرتها على حائل والتجاء أمير حائل إلى قفار واحتمائه بها، ثم جلاء حملة الترك عن حائل وبلاد الجبلين حينما نهض أهل قفار لمحاربتهم، وقد أفاض الدكتور الفريح في تحليل أخبار هذه الحملة في كتابه وخرج منها بنتائج جيدة.
غيّاض رمز الملحمة الوطنية
ما علاقة برج غيّاض بتلك البطولات؟
لنقرأ ما كتبه الأستاذ فهد العريفي، صاحب المؤلفات عن بلاد الجبلين، في كتابه (حائل) عن أهل قفار: (كان أهلها على جانب كبير من القوة والمنعة، ولا يستطيع اقتحامها لقوتها وعلو شأنها أي غاصب مهما كانت قوته في ذلك الزمن. وبعد وقعة الدرعية (1232هـ) على يد إبراهيم باشا وبقوة وعتاد الدولة التركية التي كانت تبذلها سخية لحاكم مصر (محمد علي باشا) في سبيل تحطيم الحكام العرب في قلب الجزيرة العربية الذين لا يدينون لها بالولاء والطاعة، أرسل محمد علي حملة قوية للقضاء على حائل وقفار وما يتبعها من قرى وبواد. وقد وجدت الحملة المصرية مجابهة قوية في كل من حائل وقفار.
اضطرت هذه القوة للبقاء على بعد حوالي ثلاثة أكيال في جنوبي شرق قفار، وبنوا قصرا لا تزال آثاره قائمة يسمى (قصير الدولة) وحفروا في وسطه بئراً وجلسوا ينتظرون حصول ثغرة في صفوف أهالي قفار يستطيعون من خلالها الولوج والسيطرة، لكن وجود العدو لم يزد أهل قفار إلا التفافا وتلاحما والوقوف صفا واحدا وقلبا واحدا للدفاع عن شرفهم وكيانهم، وأخذت القوة المعادية ترسل المتسللين إلى قفار لاستطلاع الأمر..).
ثم أشار العريفي إلى قلعة غيّاض ومنعتها وذكر الحادثة التي دفن فيها أحد جنود الأتراك في سور غيّاض؛ فقد قبض أهل هذه القلعة العتيدة على أحد أولئك المتسللين من عيون الحامية التركية وألقوا به حيا فوق سور غيّاض ووضعوا فوقه اللبن والطين (1) وأكملوا البناء، ثم تركوا مرافقه ليعود أدراجه إلى زملائه فيخبرهم وهو لم يفق بعدُ من هول الصدمة، ولا تزال آثار عظام ذلك المتسلل باقية في هذا السور الضخم إلى اليوم.
ثم يذكر العريفي بعد ذلك كيف انسحبت تلك القوة الغازية تحت جنح الظلام تجر أذيال الهزيمة، بعد أن أشار إلى أنها تمكنت من قتل أمير حائل وبعث رأسه إلى تركيا.
ولعل مما يساعد على تصور القيمة الحضارية الحقيقية لبرج غياض ذلك الوصف البارع لأحد المتخصصين في دراسة الآثار من أبناء حائل، وهو الأستاذ خالد الصالح، في دراسة له عن غياض، حيث يقول: إن هذه القلاع والحصون في قفار تشبه المباني الحصينة في القاهرة وبكين، وإن براعة التصميم تظهر جلية من خلال الأسوار الثلاثة، فالأول منها يحيط بقلعة غياض الرئيسة ذات البرج العالي حيث مقر الأمير والخاصة، وبها دور عند كل دار بئر، أما الثاني فيحيط بالمساكن الكثيرة الواقعة خارج القلعة الرئيسة وبه آثار مبان مهدمة ومقابر لا تحصى، وأما السور الثالث الذي لا تزال آثاره تشاهد في شرق قفار فيحيط بالمزارع وهو مشرف على وادي حائل (الأديرع).
نقل عنه هذا القول الدكتور عبد الرحمن الفريح في كتابه (قفار) وقال في غياض إنها بلدة مستقلة بأسوارها الضخمة وقلاعها الشهيرة التي لا يكاد يوازيها شيء من الحصون المنيعة في الجزيرة العربية في جودة البناء وضخامة الحوامي. وهذه الأسوار في محلة غياض تعدّ عند أهل قفار، بل عند أهل الجبلين عموماً، مفخرة من مفاخر التاريخ، تدور حولها أحاديث المجد والعزة في وقت سيطرت فيه الاضطرابات وبقيت القوة وحدها هي السبيل الوحيد للاستقرار والاطمئنان.
نداءات
ألا يجب بعد كل هذا أن يبقى ذلك الرمز (غياض) شعارا للكرامة والتضحية في سبيل الوطن؟
لقد دعا الشيخ الفاضل أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري في مقدمته لكتاب الدكتور عبد الرحمن الفريح (قفار) إلى ضرورة الاهتمام بتلك المعالم الأثرية واستكشاف ما خفي منها.
وأنا بدوري أوجه نداءً خاصاً للعناية بهذا المعلم بترميمه وبعث ما اندثر منه وتحويله إلى متحف كبير كما هو دأب الأمم في نهجها الحضاري؛ للحفاظ على رموز الكفاح ومواطن العزة والمنعة، فنحن لا نكاد نلحظ غياضا إلا في زوايا منزوية من نشرات التعريف بحائل.
وندائي موجه إلى كل من:
- صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود، أمير منطقة حائل.
- صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الأمين العام للهيئة العليا للسياحة.
- جمعية الآثار والتاريخ في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
- وكالة الآثار في وزارة التربية والتعليم.
- قسم الآثار بكلية الآداب.
- قسم الآثار في إدارة التربية والتعليم في منطقة حائل.
- المسئولين عن السياحة والآثار في حائل.
- الهيئة العليا لتطوير منطقة حائل.
- تليفزيون حائل.
- مكاتب الصحافة في حائل.
- جميع المسئولين عن الآثار والباحثين وذوي الاهتمام.
ناصر عبد الله التركي البكر
حائل - ص. ب 3633
(1) وهم يرتجزون: (عدّوا لبن عدّوا طين..... عدّوا حدا الرجاجيل)
|