في ظنِّي، لم يسبق أن احتار كُتَّابنا في أمر المشاركة في أحداث الأمة، الداخلية والخارجية المزلزلة، كما حدث في هذه الحقبة من تاريخنا الحاضر، لا لضعف في قدرة أقلامهم، ولا لغشاوة في الرؤية، لكنها فتنٌ تتوالى، تلجم التفكير، وتحير في التعبير، فما ان تفرغ هذه الأمة من محنة شرقاً، إذا بمحنة أخرى تلحق بها من الغرب، وما ان تنتهي من مصيبة، فإن طامة ثانية أكبر تغطي عليها وتطغى!
وهكذا دواليك، مرّ الوطن العربي بمشرقه ومغربه، بأحداث جسيمة عميقة التأثير، سيئة السمعة في تاريخ الأمة، ليس أقلها حرب لبنان الأهلية الطاحنة، واقتحام قدسية الحرم المكي الشريف من أقرب الناس إليه، واجتياح بلد عربي لبلد آخر مجاور، واختطاف الإسلام من أهله، وابتلاء المسلمين بتنظيمات إرهابية تدعي الانتماء إلى الدين والدفاع عنه، واحتلال أم الديمقراطيات في العالم لبلدين في قلب العالم الإسلامي، وأن يُحجز زعيم عربي بين جدران مكتبه، وأن يتصيد اليهود الصهاينة رموز المقاومة الإسلامية بدماء باردة رخيصة دون حراك أو ردة فعل.
إن نازلة واحدة، كلية أو جزئية من هذه النوازل، كانت تكفي أرباب الفكر والقلم وكُتَّاب التاريخ، لأن تهتز مشاعرهم للتفاعل مع تلك الأحداث الجسام، لكن الكثير منهم لجؤوا إلى الصمت من هول المفاجآت والذهول المتعاقب.
صحيح ان التاريخ العربي والإسلامي والوطني، مليء بالأمجاد، زاخر بالإنجازات المشرفة، وان حال الأمة تظل بخير، وان الأيام الساطعة فيها أكثر من المعتمة، وان أغلب المحن والرزايا قد تزيدها منعة وقوة، لكننا صرنا نشهد في عصرنا الحاضر أحداثاً تشوه ما بنته عبر عصورها من أمجاد، وتشوّه ما حققته من سمعة، وتلطّخ صورتها المشرقة أمام العالم، حتى لم يعد لدى العربي ما يقدمه من مبررات، لتحسين المقاصد والأسباب والأعذار، وتراجعت قضايانا المصيرية إلى مؤخرة الترتيب في الأهمية والأولويات، في مسعى لتصفيتها.
فماذا سيدوّن التاريخ عما حدث في قلب الجزيرة العربية، ومهد العروبة والإسلام، وقبلة العالم الموحد بالله، الذي صنع أمجاد ماضي المسلمين، وسبك ملحمة الوحدة العربية الحاضرة، أن تقوم فئة من أبناء مجاهديه باغتيال حرمة الكعبة المشرفة، وترويع أمن المصلين والحجاج، دون أدنى سبب أو عذر مشروع؟!
وماذا سيكتب التاريخ عن إنسان وُلِدَ في بلاد أكرم والده وأسرته وألبسهم جنسيته، يعض يد الأم التي أرضعته ويلطّخ سمعة دينه أمام العالم أجمع بهذه السمعة المشينة الملوّثة، بدلا من ان يكون قدوة ونموذجاً مشرفاً لها، ويوظف قدراته لصون كرامتها والدفاع عنها، ورفع رأس مواطنيه كما كانوا دائماً وأبداً؟!
وماذا سيقول التاريخ الحديث عن أفراد أكرمهم الله بالعقل والمراتب العلمية العليا، وهم يتباهون في لندن، بالخروج على وطنهم، ومعارضة إجماع قومهم، ونشر غسيل بلادهم في الخارج، منخدعين بملاذ مزعوم، وتحريض زمرة من الغوغائية وقصيري النظر وناقصي العقول والأبصار، وتحالفوا مع الشيطان، غير مدركين ان مآلهم إلى وبال، وان مردهم - طال الزمن أو قصر - إلى هذه التربة الحاضنة وهذه الأرض الرؤوم، وأن خيانة الوطن مصيرها الخسار.
لقد أظهرت الأيام ان هذه المعارضة، ألعوبة في فلك مَنْ يغيضه تماسك هذه البلاد، ويسوؤه تضامن أهلها وتقدم مسيرتها، حتى حازت استهجان المواطن على مسلكهم وتصرفهم ومبلغ تفكيرهم، فضلا عن استهجان من يوظفهم ويستغل سذاجتهم.
وسيخجل التاريخ كثيراً عندما يسجل ان مجموعة صغيرة متطرفة تنتمي إلى الإسلام، وتحمل سمة بلاد الحرمين الشريفين، تشارك في عملية إرهابية باغية قتلت آلاف الأبرياء في نيويورك وواشنطن، وشوّهت صورة الإسلام الذي تنتسب إليه، ويقبل عليه أبناء الأمريكيين زرافات ووحداناً، بعد ان بنى المسلمون معهم جسوراً من المحبة والإخاء.
تُرَى هل سيرحم التاريخ، وهو يدون يوماً بعد يوم، أفراداً من قلب هذه الجزيرة، وقد انحرفوا عن الصواب، بعد ان تأثروا بفكر منحرف، فوضعوا أيديهم على الفتيل والزناد، ليفجروا وطنهم الذي بنوه، ويغتالوا بسمة أهله ويحولوا أمنه، الذي يُضْرَبُ به المثل، إلى خوف في الشارع ووجل في البيوت وحواجز حول المنشآت، وتعقيد في التنقلات، وقلق بين المقيمين؟!
إن الجراح التي أحدثتها يد الجريمة، والدماء التي أسالتها يد الغدر، والنفوس البريئة التي أزهقتها براثن الخيانة، والسمعة التي لوّثتها زمرة الإرهاب، لن تمسح من ذاكرة التاريخ، بعد ان شوّهت تلك الصورة الزاهية التي عمرها الأجداد النبلاء.
لطالما تمنّينا لو ان التاريخ توقّف، وليته كأنه شريط نمسح منه ما نشاء، ونُبقي فيه ما نشاء، لكنه، شئنا أم أبينا، قام بوظيفة الرصد والتدوين؛ فالتاريخ لا يتوقف ولا يرحم ولا ينتقي.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
|