أتذكر أنني قبل أكثر من ثلاثين عاماً كنتُ أضحي بمصروف إفطاري في المدرسة، وأدفعه إلى الجابي الفلسطيني استجابة لشعار (ادفع ريالاً تنقذ عربياً). كنتُ - كأي طفل صغير - أشعرُ بنشوة ما بعدها نشوة، وفخر ما بعهده فخر، وأنا أستجيب لواجبي (القومي)، مؤثراً إنقاذ (الفلسطيني) على نفسي.
الآن وبعد أن ساهمت الشعوب العربية من دمها ومدخراتها بكل شيء لنصرة ودعم ومؤازرة القضية الفلسطينية، وقدمت التضحية من أجلها على حساب أوطانهم وتنميتها، ألا يحق لنا أن نسأل: ما هو حساب الأرباح والخسائر؟.
الإجابة للأسف: الفشل الذريع. ذهبت كل الأموال، وذهبت كل الجهود، وذهبت كل تلك التضحيات الغالية، إلى المجهول، واستمرت هذه القضية في الانحدار وانحدرنا معها، حتى انتهت بنا وبكل الفلسطينيين إلى الحالة المتخلفة والمذلة التي نعيشها الآن. وأمام هذا الواقع المزري ألا يحق لنا جميعاً أن نرفع أصواتنا متسائلين: لماذا بعد كل هذه التضحيات، وكل هذا الفشل، لا نعيد التفكير في ارتباطنا بالقضية الفلسطينية، وندع فلسطين للفلسطينيين، ونلتفت إلى قضايانا التنموية الوطنية الملحة، ونضعها اقتصادياً، وفي تعاملاتنا الدولية، على رأس قائمة الأولويات؟.
لقد أنهكنا - كعرب- إصرارنا الغبي على نسيان أنفسنا، وأوطاننا، ومشاكلنا وقضايانا التنموية، وفي المقابل تقديمنا القضية الفلسطينية على أساس أن لها الأولوية المطلقة، حتى لو كان ذلك على حساب مصالحنا الوطنية، ولقمة عيشنا وعيش أبنائنا، واستقرار أوطاننا، وخدمة مواطنينا؟. ألا يكفي أننا دفعنا طوال أكثر من أربعة عقود من المال والجهد والتضحيات والمواقف في علاقتنا الدولية لهذه القضية، ما أثقل كواهلنا، وكرس أمراضنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسبب لنا من المشاكل والمعوقات ما جعلنا في ذيل قائمة الأمم الحية حضارياً؟.. ثم ماذا كانت النتيجة؟ القيادات المتنفذة الفلسطينية مازالت رغم فشلها الممتد لأكثر من ثلث قرن كما هي باقية ترفل في أثواب من الرفاه والترف وربطات العنق الأوربية الأنيقة، في حين يتضور الشعب الفلسطيني جوعاً، وتزداد طوابير العاطلين عن العمل، ليس من الفلسطينيين فحسب، وانما من كل العرب، أما عن نسب الفقر بين الشعوب العربية فحدث ولا حرج، فهي - ولله الحمد والمنة- في تفاقم مستمر.. فاتورة السلام دفعها العرب مرغمين لا مختارين، مثلما أن فاتورة الحروب كانت قد دُفعت من قبلنا لتكون النتيجة في المحصلة: لا الحروب هي التي حلت القضية، ولا السلام استطاع أن يجعل لمأساتنا مع فلسطين نهاية.
وبدلاً من أن نسهم في نصرة القضية، جرتنا هذه القضية إلى مآسيها. غابت التنمية والحضارة عن الوطن العربي غياباً شبه تام، لأن الحالة كما كانوا يبررون - ليست حالة سلام وتنمية وحضارة، وإنما هي حالة صراع مع العدو الصهيوني مؤداها (نكون أو لا نكون)!.. أصبحت ثقافتنا ثقافة حرب وعنف وانغلاق وتقوقع وأزمات تلو أزمات، بدلاً من أن تكون حضارة علم وانفتاح وتقدم وتماحك معرفي مع الأمم الأخرى.. هُمِش الإنسان، ونسيت أحواله المزرية، وهدّه الفقر والعوز، وعندما نسأل: لماذا؟ يأتي من يقول: لسنا في حال الإنسان الآن وإنما في حالة صراع أكبر، إنها (قضيتنا المصيرية) التي تحتم علينا أن نوجه كل جهودنا وإمكانياتنا إليها، ونضع كل همومنا الأخرى، بما فيها الإنسان، جانباً!.. ولم يكن شعار (لا صوت يعلو على صوت المعركة) الذي رفعناه على رؤوس الاشهاد مجرد شعار أو مزايدة، وإنما كان إستراتيجية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لنكتشف أخيراً، وبعد خراب مالطا، أن (إستراتيجيتنا) العنترية العتيدة لم تفلح في كسب المعركة التي فرغنا أصواتنا وجهودنا وكل إمكانياتنا لخدمتها، كما أننا لم نفلح في تغيير واقعنا المتخلف الذي نعايشه، فخسرنا هنا وخسرنا هناك. ورغم ذلك فالشعارات هي نفسها لم تتغير. لطم الخدود والشكوى من ظلم الإسرائيليين وتعسفهم لم يتغير. عبارة (الحق على الأمريكان) رددناها منذ أربعين عاماً ولم نزل نرددها حتى الآن لم نتغير.. أما الذي يتغير، و (يدحدر) فهي القضية نفسها، ومعها أوضاع كل الدول العربية، حتى أصبح الإنسان العربي والفقر والتخلف والإرهاب أربعة مفردات تشكل (سمة) للعربي أينما حل وارتحل.
وأكاد أجزم أن بني يعرب لو رفعوا أيديهم عن الشأن الفلسطيني، وكفوا عن محاولاتهم لعلاجه، وتركوا قضية فلسطين للفلسطينيين، لواجه الفلسطينيون واقعهم المرير مواجهة حقيقية وعقلانية، ولتلمسوا لمشاكلهم حلاً، ولأصبحت المتاجرة بالقضية - وهذا بيت القصيد- وتوظيفها كبقرة حلوب للبعض دون الآخرين أمراً متعذراً، لأن القرارات ستتخذ تحت الشمس وليس في الظلام، ولترك النفعيون القضية وتولاها الوطنيون الفلسطينيون الحقيقيون، عندها سنتفرغ نحن لمشاكلنا الحضارية وفي المقابل سيضع الفلسطينيون أرجلهم على الطريق الصحيح لأول مرة في تاريخهم وسيصلون حتماً.. دعوا فلسطين للفلسطينيين وسترون النتائج.
|