يبدأ الإسلام بناء المجتمع في ضمائر الأفراد ووجدانهم، فهناك في أعماق الروح يغرس بذرة الحب، وينسم نسمة الرحمة, الحب الإنساني الخالص والرحمة الإنسانية المبرأة.. إنه يرد الناس إلى ذكرى نشأتهم الأولى من نفس واحدة، ويوقظ في وجدانهم شعور النسب والقربى، ويذكرهم اخوتهم في الله وفي المنشأ والمصير. فإذا رفت جوانحهم بهذه المشاعر اللطيفة كانوا إلى السماحة أقرب، وإلى السلام أدنى، وهانت أسباب الخلاف والنزاع، وأمكن أن تفلح النظم والقوانين التي يسنها لتحقيق هذا السلام، والتنظيمات، وسارت عجلة الحياة في يسر ورفق وسماح {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} (1) سورة النساء.
وهكذا تنتظم البشرية كلها في نسب واحد، وتختفي المنازع والفوارق، لتبرز تلك الصلة الكبرى الوثيقة العميقة، التي تشمل الناس جميعاً على اختلاف الملل والنحل، والأجناس والألوان، واللغات والأديان.
أما المؤمنون فهم أقرب رحما بعضهم إلى بعض، بحكم اخوتهم في الله, والتقائهم في العقيدة التي يعدها الإسلام أوثق من روابط الدم، ووشائج النسب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} .. (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) . أولئك يهتف فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله اخوانا) . وينوط الإيمان بينهم بالحب حتى لا يفرق المرء بين نفسه وأخيه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ويحرم عليهم الخصومة أكثر من ثلاث ليال يفتأون فيها غضبهم ثم يثوبون إلى المودة والقربى: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) .
والرحمة صنو الحب، والله يصف نفسه بها مراراً وتكراراً، ويمن بها على نبيه أن جعلها في قلبه فكان ليناً عطوفاً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} ويمن بها على المسلمين أن بعث إليهم هذا الرسول الرحيم:
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ويجعل القسوة أمارة للكفر والتكذيب بالدين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
بل إن الإسلام ليخطو بوجدان الرحمة خطوته الكبرى فيتجاوز بها عالم الإنسان إلى عالم الأحياء كله، فيشيع في القلب البشرى بشاشة ذلك الوجدان ورقته وانعطافه تجاه كل ذي حياة، يقول الرسول الكريم: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش, فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا يا رسول الله: وان لنا في البهائم أجرا؟ قال: نعم. في كل ذات كبد رطبة أجر) . وهي عناية في استجاشة وجدان الرحمة لا تبلغها إلا العقيدة المؤمنة بوحدانية الخالق.
|