يا رب حيّ رخام القبر مسكنه
وربَّ ميْتٍ على أقدامه انتصبا |
أعرفه.. منذ نعومة أظفاري وأنا أرقبه جبلاً شامخاً يطاول أعنان السماء، أتحين فرصة للظفر بالسلام عليه..
وأعرفه.. عندما كنت تلميذاً له في المعهد العلمي أغرف من بحار علمه الجم. وقتها كنت أسعد طلابه به، إذ كان يسألني عن والدي - رحمه الله- مما يجعلني مزهواً بهذا الانحناء اللطيف لفتى في الخامسة عشرة من عمره، أفتخر بهذا أمام زملائي الذين يتهامسون (جهراً) عن سر هذه العلاقة كأنما بيني وبين شيخي صفقات.
أعرفه.. إماماً متميزاً، وخطيباً مفوهاً، يهز أعواد المنابر صادعاً بكلمة الحق، صادحاً بكلمات رخيمة عن أحوال المسلمين من المحيط الى المحيط.
كنت أصطحب رفاقي للصلاة في مسجده والجموع تزاحمنا كي تسمع من شيخها الآلام التي تدور من حولنا.. ثم يعقب بآمالٍ تنفرج لها أساريرنا كأنما نحن في عهد الفاروق، أنا لا زلت أتذكر طالب العلم الذي قلت له: إن الشيخ محمدا قد خطب عن كذا وكذا، وكانت خطبة مميزة ورائعة و.. فقاطعني بحدة: لا تقل إن الشيخ قد خطب عن كذا وكذا، بل قل إنه خطب فقط، وهذا كافٍ لوسم الخطب بالتميز.
أعرفه.. قائداً بارعاً، وإدارياً محنكاً، سار بمجلس العائلة من القاع الى القمة، يجوب البلاد شرقاً وغرباً، جيئة وذهاباً، يستحث الهمم، ويشحذ العزائم، واضعاً نصب عينه لمّ الشمل وصلة الأرحام، وكان يؤكد هذا في كل اجتماع للأسرة، يقول لنا بنظرة بعيدة ترمي الى الهدف المنشود: لا تنظروا الى ضعف البدايات، بل العبرة بروعة النهايات، وكانت نظرته الاستشرافية قد أصابت هدفها، فلم يرحل إلا وقد اطمأن على سير العمل وحسن الإعداد وتلاحم الأبناء مع الآباء.
أعرفه.. في العمل تحت منظومته، فسلامه بابتسامة، وعتابه بابتسامة، ونظرة بابتسامة، كانت البسمة قد حفرت في محياه، لا نراه إلا مبتسماً، يجيء باسماً، ويغادر باسماً، وهذا سر القبول الذي يحظى به من تلاميذه، ومن أقاربه، ومن مأموميه، ألم تر الى منظر الناس في جنازته وهم يتزاحمون للصلاة عليه- رحمه الله- ؟ ترى هل وسعهم بماله أم بأخلاقه؟
حقاً سترثيك البلدة وما جاورها، سيرثيك المنبر وعيدانه، سيرثيك القلم وحروفه، سترثيك أناس بينك وبينهم مفازات، لا نامت أعين الجبناء عن موتك في سبيل الله وانت غادٍ في طلب العلم، فيختارك الله في جواره، ضيفاً على رحيم رحمن، راحلاً بجسمك وزوجك وابنتك، تاركاً علمك الذي انتفع به خلق، وسينتفع به آخرون، تاركاً منبرك الذي سيُتعب من يعتليه، تاركاً صوتك الشجي الذي ما زال يصدح في مسجل السيارة.
|