لا يعد كتاب (حرب العراق) للمؤرخ العسكري (جون كيجان) مجرد تسجيل أو رصد للمعارك التي دارت رحاها خلال العام الماضي في الأراضي العراقية، بل يمكن القول إن الكاتب يقدم من خلال هذا الكتاب تأريخاً محكماً يتتبع الحقب التي مرت على هذا البلد منذ قديم الأزل، وحتى تم إخراج الرئيس المخلوع (صدام حسين) من الحفرة التي كان يختبئ بها والشبيهة ب(جحر العنكبوت).
ويتضمن هذا الكتاب الممتع العديد من التفاصيل التكتيكية التي يحفل بها المهتمون بالاطلاع على مجريات الحروب، وكذلك رؤية تاريخية متبصرة للقراء العاديين، وقبل هذا وذاك يبرز (كيجان) في هذا العمل موهبة خاصة في بلورة الدوافع التي كمنت وراء تحركات الأطراف الرئيسية في تلك الأزمة، وعقليات هذه الأطراف وكيف جرى التصادم بينها فيما بعد.
*****
عقدة صدام
وعلى سبيل المثال يفسر (جون كيجان) في كتابه حملات التطهير التي كان يقوم بها (صدام حسين) في صفوف الجنرالات العراقيين بين الحين والآخر بالقول: إن صدام لم يكن (جندياً في أي يوم من الأيام) مشيراً إلى أن استبعاد هذا الرجل في وقت مبكر من حياته من أن يكون أحد عناصر الطبقة العليا في العراق، والتي كان أساسها ضباط الجيش بسبب فقره وضحالة ثقافته أورثه غيرة شديدة قادته فيما بعد للقيام بحملات التطهير تلك خاصة وأنه كان يرى جنرالات الجيش بمثابة منافسين محتملين له. ويشير (كيجان) إلى أن مثل هذه الإجراءات أدت إلى إضعاف التأييد الذي كان يحظى به الرئيس العراقي المخلوع سواء في صفوف الجيش أو بين المواطنين العراقيين، لاسيما أن (صدام) كان المحرض الرئيسي على الزج ببلاده في أتون صراعات دامت أعواماً وأعواماً، بداية من الحرب مع إيران التي اندلعت عام 1980.
وتساعد هذه الرؤية على تفسير عنصر أساسي من تلك العناصر التي يرتكز عليها الطرح الذي يقدمه (كيجان) في ذلك الكتاب، وهو العنصر الذي يعبر عنه بالقول: إن (الحرب في العراق لم تكن بأي معيار حرباً بالمعنى المفهوم)!، مشيراً إلى أن (صدام حسين) عندما قاد بلاده تلك المنهكة من الأصل جراء الحروب المتوالية n مرة أخرى إلى حافة الهاوية وجد أن القسم الأكبر من قواته المسلحة يرفض المشاركة في القتال. ويقول الكاتب في هذا الشأن إنه (مع ظهور قوات التحالف على مسرح الأحداث، لجأ الجنود العراقيون إلى الاختفاء بين السكان المدنيين ولم يرهم أحد بعد ذلك).
جذور الحرب
ويشير (كيجان) في كتابه إلى أن ما جرى في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق مغاير للنظرية العسكرية التقليدية التي تقول بأن المدافعين عن وطن ما من المتوقع لهم أن يسعوا للتصدي لأي هجوم يتعرض له هذا الوطن، مدعياً أن هذه النظرية لم تعد تنطبق سوى على البلدان الغربية المتقدمة التي نشأت فيها من الأساس.
ويؤكد المؤرخ العسكري أن التحالف الذي قادته أمريكا في العراق نجح في تحقيق نصر خاطف في حرب يصفها بأنها حرب مربكة ومحيرة ترك فيها الجنود العراقيون دباباتهم ومدافعهم وحتى ستراتهم العسكرية، بينما هام المدنيون على وجوههم إما بفعل الارتباك أو بسبب رفضهم لكل ما يجري أمامهم، مما أدى في النهاية إلى وقوع خسائر بشرية جسيمة بينهم. ومع محدودية الاشتباكات التي يمكن لمؤرخ عسكري مثل (كيجان) تناولها بالتفصيل، خصص الرجل ثلثي كتابه تقريباً لتحليل جذور وأسباب وخلفيات الحرب الأخيرة سواء في العراق أو في البلدان الغربية، كما تناول الكاتب أيضاً بدرجة أقل العواقب التي نجمت عن هذه الحرب. ويقدم (جون كيجان) في الكتاب تفسيراً مثيراً للخلاف الذي نشب بين الولايات المتحدة وأبرز حلفائها الأوروبيين مثل فرنسا وألمانيا بشأن الحرب على العراق، قائلاً: إن اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر أدت إلى حدوث ما يسميه (ثورة) على صعيد السياسة الأمريكية أدت إلى تحول نظرة الولايات المتحدة إلى العالم من نظرة تتسم بالنزوع إلى فعل الخير n على حد قوله n إلى نظرة أخرى حافلة بالشكوك، مما ساعد على بزوغ الرؤية العسكرية المنادية بشن حروب استباقية مستندة إلى اعتقاد مؤداه أن لواشنطن الحق في التحرك بشكل منفرد على الساحة الدولية. ويستطرد الكاتب موضحاً أنه على النقيض من ذلك كانت القوى الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وألمانيا تتخذ موقفاً معارضاً لأي عمل عسكري أحادي الجانب من قبل أية دولة، متبنية في هذا الشأن نظرة مثالية تتمحور حول ضرورة التعامل مع أية تهديدات من خلال المنظمات الدولية أو الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي.
ويعلق (كيجان) على هذه المسألة في كتابه بالقول إن الخلاف الأمريكي الأوروبي في هذا الصدد يكشف عن وجود ثغرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مشيراً إلى أن أمريكا التي جاهدت طيلة خمسين عاماً من الحرب الباردة لإقامة نظام دولي يذعن لقوتها العسكرية وجدت نفسها في مواجهة مع دول أوروبية باتت تتبنى فلسفة مؤداها أن النزاعات لا يمكن حلها سوى من خلال تدخل دولي بناء على رؤية مفادها أن صراعات المصالح يمكن تسويتها من خلال التشاور والحلول التوفيقية وتدخل المنظمات الدولية، بالرغم من أن تلك الدول كانت تؤمن من قبل بفعالية الحل العسكري.
ويوضح (جون كيجان) موقفه بجلاء إزاء هذا الخلاف الفكري، مشيراً إلى أنه من قبيل الوهم والخداع أن يتصور المرء أنه بالإمكان حمل أية دولة على احترام القانون دون التلويح باستخدام القوة، ويقتبس في هذا الصدد عبارة منسوبة للفيلسوف (توماس هوبز) الذي عاش في القرن السابع عشر يقول فيها: إن (المواثيق دون السيوف ليست سوى كلمات).
الخبرة الاستعمارية
ودروس التاريخ
وعلى الرغم من ذلك إلا أن الكاتب يوجه انتقادات للسياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة في حملتها على العراق وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب، قائلا إن الإدارة الأمريكية التي تفتقر إلى متحدثين يجيدون اللغة العربية كانت غير مستعدة للتعامل مع المقاتلين في العراق ومع العالم العربي بوجه عام.
وأوضح أن واشنطن تفتقر أيضاً إلى الخبرة الاستعمارية التي تتمتع بها بعض البلدان الأوروبية فيما يتعلق بحكم الدول العربية، قائلاً: إنه يضاف إلى ذلك أن الجالية المسلمة التي تعيش في أمريكا تعد صغيرة العدد نسبياً بالمقارنة بالجاليات التي تعيش في أوروبا.
ويشير المؤلف في كتابه إلى أن ضحالة الخبرة تلك أدت إلى وقوع أخطاء فادحة في مرحلة ما بعد الحرب مثل اتخاذ قرار بحل الجيش العراقي، واستبعاد كوادر حزب البعث من المؤسسات الحكومية. ويقول: إن هذه القرارات التي نجمت عن رغبة أيديولوجية في دفع العراق نحو الديموقراطية بشكل فوري تجاهلت الدروس والعبر التي تم استخلاصها من تجربة اجتثاث جذور النازية من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ويخلص (جون كيجان) للقول في كتابه: إن كل هذه العوامل أسهمت في الموقف الصعب الذي تواجهه أمريكا في العراق حالياً، خاصة حيال مسألة نقل السلطة للعراقيين. وعلى أية حال يبقى (كيجان) في نهاية المطاف أحد المدافعين البارزين عن الحرب في العراق والتي يقول: إنها أدت إلى أن يصبح (العالم مكاناً أكثر أمناً بلا ريب)، على الرغم من أنه يعترف بأنها أدت أيضاً إلى أن يصبح العالم أكثر انقساماً عن ذي قبل. ويؤكد الرجل أن الحرب في العراق تمثل دليلاً جيداً (على ما نحن بحاجة للقيام به من أجل ضمان سلامة وأمن العالم (وهو خيار) أفضل كثيراً مما يمكن أن توفره أية معاهدات أو قوانين) دولية.
***
الكتاب The Iraq War
المؤلف: John Keegan
الناشر: Alfred A. Knopf |