تتعالى في المجالس السعودية، وعلى استحياء في وسائل الإعلام وعبر زوايا بعض الكتاب، تساؤلات عن الفارق بين السياسات السعودية والأمريكية في مكافحة الإرهاب.. فكلا الدولتين واجهت الإرهاب بقوة غير مسبوقة، وبشبكات عالمية تعمل من الخارج أحياناً، ومن الداخل أحياناً أخرى.. والجميع يعرف الثورة العارمة التي دفعت بأمريكا أن تصول وتجول في العالم، تبطش بالناس يميناً وشمالاً، وتتشدد على الدول والمؤسسات بدون فرز أو فلترة.. ولم تحاول أي من الدول أن تقف أمام هذا الثور الهائج الذي أخذ يتوجه بأسلحته إلى كل مكان، دون اكتراث أو مسؤولية في كثير من الأحيان.. ولم تتوقف الولايات المتحدة من خلال مؤسساتها السياسية وآلتها العسكرية وسلاحها الاقتصادي، أو ماكيناتها الإعلامية من مواجهة العالم، وشطره إلى قسمين: أحدهما ينبغي ان يكون مع أمريكا مؤيداً لكل ما تعمله وتفعله وتختطه، والآخر ينبغي أن يكون عدواً لأمريكا إذا لم يشارك ويؤيد ويساهم ويدعم ويصرح ويشيد بما تفعله الأجهزة الأمريكية.. أي كما قال الرئيس بوش.. إمَّا أن تكونوا معنا، أو - بالضرورة - ستكونون ضدنا.. ولا يوجد طريق ثالث.
والمملكة العربية السعودية مرت بتجربة مع العمليات الإرهابية مشابهة كثيراً لما مرت به الولايات المتحدة.. وبزيادة نوعية أن الكثير من العناصر الإرهابية التي واجهتها هذه البلاد هم من أبنائها ومن مواطنيها ومن شبابها وبتأييد من بعض شيوخها وبدعم مادي من بعض أفرادها ومؤسساتها.. أما أمريكا فقد كانوا كلهم غرباء عن أرضها ومجتمعها وقيمها.. وهذا ما جعل العداء يستفحل والجبروت يسود والتعذيب يزداد والغطرسة تتفاقم.
وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تجنِّد الإعلام لصالحها، وتعلن بصريح العبارة ووضوح المعنى أن وسائل إعلامية معينة - في المقابل - تدعم الإرهاب وتساعد الإرهابيين وتسهل طرقهم وتنقل رسائلهم إلى حيث يريدون.. واليوم نحن في المملكة نقول نفس الشيء ونؤكد ذات المضمون ونعني نفس الوسائل تقريباً.. باستثناءات قليلة.. فنحن نعلم أن بعض وسائل الإعلام العربية - بشكل محدد - تنال من المملكة في مسيرتها وخطواتها ضد الإرهاب.. فترفع صوت الإرهاب فوق صوت المملكة، وتساعد الإرهابيين ضد مؤسسات المجتمع وضد مصالح المواطن السعودي.. وكأن هذه الوسائل تقول انه لا صوت فوق صوت الإرهاب.. ولا هدف إلا هدف الإثارة الإعلامية.
هذه الوسائل أعطت الإرهابيين نافذة يطلون منها.. وهيأت لهم مساحة يحتلونها.. ورفعت حججهم وبراهينهم فوق تصريحات المسؤولين.. وأصبحت هذه الوسائل ناطقاً رسمياً باسم الإرهاب.. وناقلاً أميناً لرغبات الإرهابيين.. وبوقاً دعائياً لمنظمات الهدم والحروب والاغتيالات.. وعلى الرغم من امتعاضنا من هذا السلوك غير الأخلاقي وهذا الأسلوب غير المهني، إلا أننا لم نندد، ولم نشجب، ولم نستنكر.. إلا من أصوات هادئة.. وكلمات أديبة.. توجه ولا توبخ.. ترصد ولا تحتد.. تحاول أن تعلن أن هناك خطأ فادحاً ترتكبه هذه الوسائل في حق أمتها وعروبتها.. ولكنها لم تزمجر أو تخلط الأوراق أو تستنكف المواقف.
ونعود إلى الفارق بين السياسة السعودية والسياسة الأمريكية فيما يختص بطريقة التعامل مع الإرهاب.. فالمملكة تتناول القضايا المحلية والدولية بحكمة وتأنٍ وموضوعية.. وتريد أن تقف على أعتاب حدودها دون ان تقفز إلى مساحات الغير.. وإلى فضاءات الآخرين.. بعكس ما قامت به الولايات المتحدة من قفز في كل الأنحاء.. والتدخل في كل الشؤون.. والتأثير على كل شيء.. والمناداة بالتغيير في كل العالم.. المملكة تختلف في الرؤية والأسلوب والاستراتيجية.. فهي ترى انه على الرغم من الأعداء الذين يحيطون بها من جوانب عديدة، إلا أنها ينبغي أن تعتمد على ذاتها وتبني صفاً داخلياً واحداً.. وتظل على سياسة عدم التدخل في شؤون الآخرين، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم الذين يستهدفون المملكة ومواقفها وسياساتها ومجتمعها وقيمها.. والعبرة بالنتائج ربما ما نظنها في بلادنا.. فإذا نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في حربها لمكافحة الإرهاب، فقد يكون نجاحها قد كلفها العالم وأثر على مصالحها في كل الأنحاء.. وتكون قد جمعت حولها من الأعداء والخصوم أكثر من عداوة وخصومة الإرهاب.. أما المملكة فإذا نجحت - وستنجح بإذن الله تعالى - في مكافحة الإرهاب فتكون قد جمعت حولها من الأصدقاء والمؤيدين أكثر من فترة ما قبل حربها على الإرهاب.. ولهذا فحكمة السياسة السعودية قد تجاوزت صلف اليمين الأمريكي المتطرف الذي أوقع بدولة كبرى مثل الولايات المتحدة في محيط عالمي من العداءات والخصومات.. وتكون المملكة في المقابل قد أحاطت نفسها بتأييد جبهة داخلية ساحقة.. وبرأي عربي وإسلامي كبير.. وبتأييد عالمي منقطع النظير.
وتظل هنا مسألة مهمة ساعدت المملكة العربية السعودية على هذا النجاح وهذا التقدم.. ألا وهو الإرهاب ذاته.. فقد كانت لغته شاذة.. ونواياه حاقدة.. وسياساته قبيحة.. وتصرفاته مشينة.. ومما يدل على ذلك ان بعض الإرهابيين أنفسهم انشقوا على الإرهابيين أنفسهم.. وأعلنوا أنهم خارجون متبرئون طارحون عرض الحائط كل مقولات الإرهاب.. وكل ادعاءات الفتنة.. وأدركوا بأنفسهم أنهم إذا استمروا على هذا المنوال، فسيكونون قد خسروا دنياهم، وآخرتهم.. دينهم وديارهم.. أهلهم وعشيرتهم.. ماضيهم ومستقبلهم.
وحكمة السياسة السعودية أن تجاوزت المنطق الغربي والأمريكي بطرح مبادرة العفو عند المقدرة.. وهذه المبادرة لا يفهمها الغربيون.. ولا يدرك خصوصيتها إلا من يعيش داخل السقف السعودي وفي البيت السعودي..
والمملكة قيادة وشعباً ومؤسسات تنطلق من قاعدة أصيلة، وحكمة بالغة، وسياسة دائمة.. فالحق قادم ولو طال انتظاره.. والباطل زائل ولو طال بقاؤه.
رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
|