تحدثنا في مقال سابق عن الجهات والمؤسسات المعنية بإعداد الفرد للحياة وحددناها في المؤسسات الاجتماعية والمراكز الثقافية والرياضية، وفي المنظمات والهيئات الدينية والإعلامية، وكافة المؤسسات المعنية بخدمة الفرد والمجتمع.
وألمحنا وباختصار إلى بعض جوانب الخلل في نشاط وجهود بعض المواقع، وبقي مرفقان مهمان هما المؤسسات والهيئات الدينية والأنظمة التعليمية الرسمية.
إن بلادنا قد حققت بفضل الله خلال العقود الماضية درجة من النهضة الحضارية التي نقلتها لمصاف دول العالم الثاني بشهادة الغير، بدأ ذلك بتكامل البنية الأساسية الشاملة المتطورة التي غيَّرت معالم صورة المملكة عن ما يحيط بها، وجعلت أراضيها أمنية وتطلعاً لكل من يرغب في حياة الترفيه، بل إن نمط المعيشة في المجتمع السعودي صار نموذجاً للمثالية بما حققه من توفر لمتطلبات الحياة السعيدة، أمن واستقرار وارتفاع في مستوى الدخل وتواصل وتفاعل مع مختلف منجزات النهضة الحضارية المعاصرة وتقنياتها المتجددة، كل ذلك جعل المملكة هدفاً في أعين الأعداء والأصدقاء. فهل كان الإعلام موفقاً في تحديد الرؤية والتفاعل مع هذه النقلة المباركة وتوجيه الناشئة إلى الصورة المشرِّفة لبلادهم.. وهل أتيحت الفرصة عبر وسائل الإعلام للحوار الهادف الرفيع مع كافة فئات المجتمع، بحيث يخاطب فيهم الحس العقلي قبل العاطفي وتستنبط الأدلة بدل عرضها، وتحدد وتطرح البرامج المناسبة الهادفة للظروف والمرحلة بدل الرتابة والتكرار، وتوظف الكوادر المبدعة المتخصصة بدل الابتذال.
أما عن المؤسسات والهيئات الدينية رسمية كانت أو تطوعية فإن لها مكانتها في المجتمعات ويفترض أن يكون لها في مجتمعنا رسالتها السامية المنبثقة من العقيدة المستلة من وحي القرآن ومنهج السنة.
فهي معنية بتجسيم غاية الفرد في هذه الحياة وتحديد مسؤوليته أمام الله تعالى أولاً ثم أمام خدمة مجتمعه المسلم، وفي رسم الأسلوب الأمثل للتعامل مع الحياة، كل ذلك من منطلق شرعي حدده الله تعالى ورسوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}، تبرز الحق القريب قبل البعيد والأهم قبل المهم، وتوازن بين الأمور: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وحديث (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).
إن النظرة الموضوعية والمعتدلة لتشخيص جهود حكومتنا تجاه قضايا الأمة الإسلامية قاطبة، وتجاه قضايا الدين الإسلامي جلية لكل منصف، فالشريعة هي الدستور والمنهج للبلاد والمشاريع الإنمائية المتتابعة لخدمة الإسلام والمسلمين في الداخل والخارج يصعب أن تعد، ولكن مع تأزم الأمر واستهداف البلاد كرمز بارز في مسيرة العمل الإسلامي من أعداء الأمة الإسلامية وفي أحلك الظروف، ومع البعد عن إدراك العواقب والآثار وضعف الرصد من قبل بعض الناس حيال الأهداف المبيَّتة والمعلنة ضد هذه البلاد وضد الإسلام كعقيدة وتوجه. برز فئة من الناس تدّعي مبدأ الغيرة والحمية على الإسلام وتطرح التهم والخيانات حيال أركان المجتمع، وتجزم بضرورة الإصلاح الشامل والفوري والقسري لكل قضايا الدين جملة واحدة، وغاب عنها سجل تاريخ النبوة الذي يمثِّل القدوة في الدعوة والإصلاح، وأغفلت قاعدة أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، وأن الاختلاف في الصلاح والفساد من حكمة الله تعالى في هذه الحياة للابتلاء والثواب: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }، خاصة مع طبيعة المرحلة ومع حجم التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية برمتها.
بقي أن نلتفت إلى جهد المدرسة النظامية وتسليط الضوء على مناهجها وأنشطتها والممارسات العملية التي تحدث داخل أروقتها، فهل نحن راضون عن مسارها، وهل لدينا القناعة بمخرجاتها، وهل هي معفاة من جوانب النقص والقصور، وهل هي معدة لتؤهل الجيل الذي يتعلَّم الآن لحياة الغد المعقدة. إن المؤشرات تعطي تصوراً بأنه حتى بعض خريجي المرحلة الجامعية في بعض التخصصات غير قادرين على المساهمة في اقتراح الحلول أو مناقشة قضايا أمتهم بشكل سليم فضلاً عن المساهمة في العلاج العملي لتلك القضايا. هذا استنتاج يقضي دراسته وتحليله لمعرفة الوضع القائم للتعليم وسبل استثماره وتطويره.
كما أن في رصد القلق المصاحب للمتعلم خلال حياته المدرسية، ومستوى اقتناعه ورغبته في التعلم ودرجة انتمائه لمدرسته دون الإقناع القسري هي مؤشرات على صورة فاعلية التعليم، ومدخل للإصلاح.. وإن بوادر التربية والتأهيل الثقافي والتوجيه العالمية المستقبلية توحي بأن التوجه سيكون نحو مسخ المعتقد والقيم وهوية الثقافة الوطنية والقضاء على إرادة الاختيار لدى المتعلم، وذلك أمر خطير جداً ينبغي النظر إليه بكل اهتمام، ولا سبيل لمواجهة ذلك إلا من خلال تربية وطنية موازية للتربية العالمية مما يعني إثارة جملة من التساؤلات قبل أن تحل النكبة هذه التساؤلات ينبغي أن تتجه صوب المعالجة الجذرية للواقع التربوي لا من خلال أساليب الترقيع المجزئ، وإن من عوامل الانطلاقة الكبرى المتعددة والمعنية بجوانب العلاج وتطوير واستثمار العمل التربوي التأكيد على التزام مؤسسات التعليم بأخلاقيات المهنة بكل ما تحمله من بنود، بحيث تكون معياراً وضابطاً للجودة، كما لا نغفل ما نتوقّع أن يحتاجه الجيل المستقبلي من مهارات واستعدادات تعمل على صياغة أفكار متجددة تصل الناشئ بالعصر الذي سيعيشون فيه، والذي من سماته اكتساب المرونة المتوازنة في مواجهة الوقائع والأحداث وتفسيراتها دون الانغلاق على التفسير الأحادي النظرة أو الذوبان في ثقافة الآخر، كما أن الحرف والمهارات ستكون متجددة وفق طبيعة وتطور العصر، وشغل ذلك بكفاءات قادرة ومتمكنة من التفاعل والإبداع فيها ستكون حاجة ملحة والوصول إلى ذلك ينبغي أن لا يكون أمنية، بل حقيقة.
إن الخطوات الإصلاحية للتعليم تبدأ مع المراجعة الجادة لسياسة التعليم وإعادة النظر في أهدافها وسبل تقويم ذلك لكافة مراحل التعليم، يحددها مطالب آنية ومستقبلية، فنحن كما يرى د. الحر (نريد تخريج جيل لا يعرف لكنه يعرف كيف يعرف، منفتح على الثقافات العالمية لكنه، متمسك بهويته، يمتلك مهارات العمل المنتج والتفكير المنهجي)، وذلك يعني تغيير الإستراتيجية القائمة في عملية التعليم، إلى حالة تقوم على التركيز على المتعلم المستهدف في عملية التعلم واستثارتة، ويبدأ التوجه إلى ذلك مع إثارة جملة من التساؤلات، ماذا نريد من المتعلم أن يكون بعد تخرجه، وكيف ستكون أساليب التعليم والتعلم التي تحقق لنا الصورة المرسومة، وهل الإجراءات والآليات بما فيها من أساليب التقويم القائمة صالحة للتوجه المأمول.
|