هاتفني زميل يبلغ من العمر ستة وأربعين عاما،ً وهنأني بسلامة الوصول، وبعد السؤال عن الصحة والأحوال بادرني مخبرا بأنه قد تزوج بثانية صغيرة السن لطيفة المعشر، وقال: الحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، فإنك تنالها في أوانها عذبة، وها قد نلتها- والحمد لله-، كما قال: لقد قصر ليلي بعد طول، وعاد شبابي بعد أفول، ونلت من السعادة في شهر ما لم أنله في أعوام، فقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:( أغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل عدمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) وقال سعيد بن مسلم:
إنما الدنيا هبات
وعوار مستردة
شدة بعد رخاء
ورخاء بعد شدة |
وقال مقولة وهب بن منبه: (إن أحسن الناس عيشاً من حسن عيش الناس في عيشه)، فأنا أحسن الناس حيث عشت معها، وهي كذلك حيث عاشت معي. وأطنب صاحبي في وصف حاله، ومدى سعادته، وذكر لي أنه قد كتم نيته تلك قبل إتمامها، فالسر يكتم في الصدور، ويصان على الظهور فصدور الأحرار قبور الأسرار، فالإقدام يجب أن يظهر بالأفعال دون الأقوال، لأن ظهوره بالفعل ظفر، وظهوره بالقول خطر، وقد قيل: من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه، ولهذا فقد لاذ صاحبي بالصمت مدة حتى فعل فعلته الحميدة تلك.
كنت أستمع له بإنصات المتلهف، والوجوم يخيم عليّ، فلم أعهده شجاعاً مقداماً ولا فارساً مغوراً، لكن الغنائم تأتي مع العزائم.
أما أنا فجبان أعترف بجبني رغم الصراع النفسي بين الإقدام والإحجام، وأوثر الدعة على ركوب المجهول، وبإيحاء من عقلي الباطن المبني على طبيعتي كان جوابي له تحذيراً من المستقبل فقد بادرته قائلاً:
تزوجت اثنتين لفرط جهلي
لما يشقى به زوج اثنتين
فقلت أكون بينهما خروفاً
ينعم بين أجمل نعجتين
فكنت كنعجة تضحى وتمسي
تداول بين أخبث ذئبتين
رضا هذي يبين سخط هذي
فلا أخلو من إحدى السخطتين |
وقلت له محذراً:
إن الزمان وإن ألان
لأهله لمخاشن
فخطوبه المتحركات
كأنهن سواكن
كما قلت له:
اذا تم أمر بدا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم |
وقلت له: أما وقد أقدمت فاعدل، واحذر دعوة المظلوم وتوقها، ورق لها إن واجهك بها، ولا تبعثك العزة على الظلم فتزداد بظلمك ظلماً، وبعزتك بغياً، وحسبك بمنصور عليك من كان الله ناصراً منك، فلن تجد إلا ما قدمت، وإنك لتجازى بما صنعت واجعل جميل سيرتك أثراً مشكوراً في ولدك بعدك.
وعندما سمع صاحبي جوابي ضحك وقال: كل امرىء بما يحسن، ومن جهل شيئا عاداه، ولن يهلك امرؤ عرف قدره، فها أنت قد عرفت قدرك فقنعت، واستسلمت لجنبك فخسرت، أما أنا فراض بما أنا فاعل، سعيد بما أنا فيه، فاغنم دنياك، واحذ حذوي، وتوكل على الله، وأقدم تنل ما نلت من السعادة، وجعلني حديثه أراجع نفسي، فأصبحت في حيرة من أمري، فهل أنتم معشر القراء حائرون أم مقدمون؟.
|