في تلك الأزمنة (أوائل الثمانينيات الميلادية) كانت الاتصالات السعودية تتزعم حركة التطور الإداري والتقني في المملكة، كنت أعمل مديراً للتدريب الإداري كما سبق أن أشرت (للتذكير). كان لدينا برنامج اسمه نقل التكنولوجيا يهدف إلى توطين التكنولوجيا وجعلها جزءا من حياة السعوديين، كان البرنامج يسير وفقا لما خطط له، من خلال دورات داخلية ودورات خارجية ودورات على رأس العمل، طبعاً لا يمكن أن يمضي برنامج فيه انتدابات خارجية من دون اختراقات، حاولت أنا وزملائي التقليل من الاختراقات، وأعني بالاختراقات تحويل هذه الدورات إلى تمشيات وسفط انتدابات، كان الكنديون يقولون لنا لا تجزعوا من تسلط بعض كبار المديرين على البرنامج، فهذه سنة الحياة في كل مكان، فبعض كبار المديرين كان يسافر إلى كندا أكثر من خمس مرات في السنة بغير وجه حق، الحقيقة كندا حلوة وجذابة، والأكثر جاذبية هو أسلوب الانتداب الذي كنا نتبعه، كانت شركة بل كندا وهي الشركة المتعاقدة تدفع للمتدرب كافة المصاريف من تذاكر وسكن في أفخم فنادق ترنتو ومونتريال، في الوقت الذي يسفط فيه المتدرب كامل حقه من الانتداب كموظف، رفعنا مذكرة وطالبنا أن يكتفي بالمصاريف التي تدفعها الشركة، وأن نتوسع بفلوس الانتداب في تطوير دورات أخرى في أماكن أخرى لحاجات أخرى، تمت الموافقة الانتقائية، يعني طبق على ناس دون ناس، شيء أحسن من لا شيء. وفرنا مبالغ كبيرة على حساب الضعوف، ولكننا توسعنا في التدريب.
كان المتدرب يعود وهو منبهر ببيئة العمل في أمريكا الشمالية، كان هذا وحده كافيا لإثارة نوازع الإبداع لديه؛ بالفعل بدأت ترتفع وتيرة العمل والانضباط والولاء، وبدأ المدير السعودي الشاب ينافس زملاءه الكنديين، يتسابق معهم على الحضور وعلى برمجة يومه، وعلى حضور الاجتماعات والمشاركة الفعالة فيها، في تلك الفترة لم يكن هناك شيء اسمه ورقة حضور وغياب، كان آخر سعودي يصل إلى مكتبه الساعة (سبع أو سبع ونص) إذا أراد أن يخرج له أن يخرج كما يشاء، عليه فقط يكتب على السبورة رقما يمكن الاتصال به عليه إذا احتجنا له (ليس لمراقبته بل إذا احتجنا إليه فعلا)، لا يحتاج أن يستأذن رئيسه لأن كل شيء مبرمج، وعملك هو الذي يقرر انضباطك، كان لدى كل مدير ملف كنا نسميه (ملف الأحداث) ملف يسجل فيه المدير كل شيء عن الموظف. إبداعاته، إسهاماته، مشاكله، عيوبه، ينمو هذا الملف حتى يأتي يوم التقييم، لا يحق للمدير أن يقيم الموظف على الانطباع الأخير كما يحدث غالباً بل عليه أن يلجأ إلى هذا الملف ويقرأ تاريخ الموظف السنوي أو نصف السنوي؛ الشيء الذي يجب أن يذكر هو أن مفهوم التقييم في الاتصالات السعودية هو للتدريب والتطوير وليس لإنزال العقوبة والحسم.كانت الأمور تسير من حسن إلى أحسن حتى جاء ذلك اليوم الأغر الأبلج الذي أطل فيه مديرنا الجديد بعد تنحية مديرنا القديم، استبشرنا به، وعقدنا معه عدة اجتماعات وشرحنا له سير العمل، كان مستمعا جيدا ولكنه لم يبد أي ملاحظة فقلنا أكيد الرجل حويط وعميق، ترك لدينا الانطباع أن هناك مرحلة جديدة سوف ننتقل إليها سرعان ما أيدت الأحداث انطباعنا.
كان يطلق على برنامجنا (نقل التكنولوجيا) فجاءنا قراره مفتتحاً بالعبارة الشهيرة (لوحظ) في اللحظة التي قرأت فيها (لوحظ) عرفت ما كنت في حاجة إليه، ولم أتم قراءة الخطاب سفطته على جنب، واتصلت بالزميل المسؤول عن النواحي الإدارية، وقلت له بالحرف الواحد، جهز الفراشين، قال ليش قلت: سعادة مديرنا الجديد من جماعة (لوحظ) لم أقل هذا لزميلي من فراغ فأنا أعرف أن الفراشين هم زينة المكاتب الإدارية السعودية وبهجتها وروحها الخلاقة، من يصب الشاهي غير الفراشين؟ من يزبط القهوة غير الفراشين؟ من يأخذ ويجيب ورق الحضور والغياب غير الفراشين، باختصار أنهم شرايين الإدارة المتدفقة، إذا دخلت أي إدارة وشممت ريحة الهيل ستعرف معنى كلامي. بعد ان أبلغت زميلي عدت وقرأت القرار أو خطاب التعميم.
كانت أولى ملاحظاته هي على تسمية البرنامج لماذا تسمونه نقل التكنولوجيا. يجب أن يسمى من الآن فصاعدا (نقل التقنية)، فالتكنولوجيا كلمة أجنبية، ويجب البراءة منها إلى يوم الدين، لم يكن الخطاب مجرد كلمتين تطالبنا بالتغيير، كان حوالي ثلاث صفحات محشوة بالأدلة والبراهين التي تؤكد أن الغزو الفكري يبدأ من مستصغر الشرر، بعدها تتابعت التعميمات والقرارات ومع دخول عقد التسعينيات تحول برنامج نقل التكنولوجيا إلى برنامج نقل المرقوق.
فاكس 4702164
|