* حلقات أعدها - عبدالرحمن العطوي:
في السجن تبدأ محاسبة النفس، ويسترجع الإنسان ذكريات حياته من مجريات وأحداث، فلا يشعر بالحرية.. وأقصد بالحرية عدم تقيد حركة الإنسان في موقع محدد.. فالسجين أو ما نطلق عليه اسم النزيل في سجون المملكة يتوافر له كافة وسائل الراحة والخدمات، إلا أن غياب الإنسان عن أسرته وأبنائه ورفقائه وأقاربه يترك أثراً في النفس، وهذا الشيء هو الذي يعود بالإنسان إلى طريق الصواب والبعد عن الخطأ والتفكير بعواقب ما يقدم عليه قبل الإقدام على هذا الخطأ، فقضايا القتل التي تحدث نتيجة لحظة غضب شديدة ولأسباب تافهة تكون نتائجها وخيمة ومأساوية ودموية، فالله سبحانه وتعالى حرَّم القتل وحرَّم الاعتداء على الأنفس بأي شكل من الأشكال.. وتبقى في النهاية أسرة السجين التي لا يهدأ لها بال وهي ترى ابنها في السجن ينتظر تنفيذ الحكم الشرعي، وهذه الأسرة تبدأ في محاولة أن تنال عفو أسرة القتيل، ويبدأ وسطاء الخير ببذل المساعي الكبيرة في نَيْلِ ما يبذلونه من مساعي النجاح لأسرة القاتل.. كما يكون القاتل في حالة ترقب ووجل لمعرفة ما تسفر عنه هذه الجهود المبذولة.. فكم من رقاب أعتقت لوجه الله تعالى دون مقابل لحظة تنفيذ القصاص وأمام الملأ، لتنطلق كلمة من أصحاب الشأن معلنة عفوها عن القاتل الماثل أمامهم المعصوب العينان في ساحة القصاص.. قصص كثيرة شهدتها ساحات القصاص في مثل هذا العفو، وهناك من أعفي عنهم وهم في السجن قبل البدء في تنفيذ حد الله في هؤلاء.
قبل أن أقدم قصة هذا الشاب - الذي نلتقي معه اليوم- وهو شاب صغير محكوم بالقصاص، أحب أن أذكر بما حدث في مدينة تبوك قبل عدة أشهر ونشر في ذلك الوقت في صحيفة الجزيرة عن العفو عن شاب من قِبَل أسرة القتيل لحظة تنفيذ الحكم الشرعي، حيث أعلن والد القتيل الشيخ عايض بن صبر العسيري عن عفوه لوجه الله تعالى عن قاتل ابنه.. وقال الشاب القاتل عبدالكريم الغريفي وقتها: إنني ولدت من جديد.
إن ما دعاني لهذه المقدمة هو أنني التقي مع شاب سعودي لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره (ب ق)، حيث يتمتع هذا الشاب بحسن الخلق والمواظبة على الصلوات الخمس والالتحاق بحلقات تحفيظ القرآن الكريم بالسجن، وهو يحفظ العديد من أجزاء القرآن الكريم.. يقول للجزيرة: لي بالسجن ثلاث سنوات وسبعة أشهر، وأنا من سكان محافظة ضباء بمنطقة تبوك، وقدر الله عليَّ وقت حدوث هذه القضية أني كنت لم أتجاوز الثمانية عشر من عمري، وتحدث مشاجرة بيني وبين أحد الأشخاص وكان ذلك في مكان عام في ضباء وقد طعنت الشاب الآخر - رحمه الله- بسكين أودت بحياته.. لم أقصد قتله وكان استخدامي للسكين في لحظة غضب شديدة، فلم أدرِ بنفسي من شدة الغضب ولا أدري كيف تجرأت وقتلت هذا الإنسان المسلم، فأنا والله لم أقصد قتله وكأي مشاجرة تحدث بين شابين.. لكن أقول لعنة الله على الشيطان، وأعوذ بالله من الغضب، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- تعوَّذ من الغضب، وأنا والله نادم على ما حدث أشد الندم وتائب إلى الله مما فعلته في حق أخي المسلم القتيل رحمه الله. إنني أتعذب كل يوم وليلة.. يتكرر في مخيلتي سيناريو هذا الحادث المأساوي، وأدعو في صلاتي في كل وقت من الله المغفرة، وأدعو لمن تسببت في قتله أن يدخله فسيح جناته، وأدعو لأبيه وأسرته بالصبر.. وحقيقة لا يعرف الندم إلا من وقع في الخطأ، وباب التوبة مفتوح، فأنا في هذا السجن التقيت بأشخاص قضاياهم مختلفة لكن من هم مسجونون في مثل قضيتي أجدهم كحالتي في ندمهم وحزنهم على ما ارتكبوه من خطأ فادح.. فنحن إلى الآن نأخذ عقوبتنا في هذا السجن، وأعلم أن أسرتي في حالة أسف وحزن على ما أنا فيه.. كلنا يعلم عن قلوب الوالدين وكلنا يعلم عن حب الأم والأب لأبنائهما.. ويا أخي ما أصعب أن تشاهد والديك وأخوتك في أوقات الزيارات وأنت خلف قضبان الحديد.. أسرتي تزورني وتحضر لي من محافظة ضباء التي تبعد عن تبوك مسافة 180 كم.. فتخيل كل أسبوع على هذا الحال منذ دخولي السجن، وأقول لهم: جزاكم الله كل خير.
* هل هناك مساعٍ لأجل التنازل من أسرة القتيل عنك؟
- المساعي مبذولة من أهل الخير، فالكل يبذل مساعيه من أجل التنازل.. لكن على حسب علمي أن ذوي القتيل -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- لم يوافقوا على التنازل عني.
* هل هناك كلمة تريد توجيهها لهم؟
- أقول، وأشهد الله على قولي: إنني لم أقصد قتل ابنهم وإنني نادم أشد الندم على تسببي في مقتل ابنهم -رحمه الله- وأعلم أن أسرة القتيل هم من الأكارم وأناس أتقياء يخافون الله، وهم من يملك الأمر، وأمري - بعد الله- في أيديهم، وأوجه لهم هذه الكلمات عبر صحيفة الجزيرة فأقول لهم: إن العفو من شيم الكرام، وأدعو والد القتيل أن يعفو عني فأنا إنسان نادم على ما بدر مني، وأذكره بعظم أجر عتق الرقبة.. فإن من أعتق رقبة لوجه الله تعالى أعتقه الله من نار جهنم يوم القيامة.
وقد تغير مجرى حياتي في السجن، وتعلمت حفظ كتاب الله والأحاديث فسأكون مواطنا صالحا، وأدعو أهل الخير في هذه البلاد وكل من يسمع صوتي ويقرؤه ومن يستطيع توصيل صوتي إلى والد وأسرة القتيل -رحمه الله- ليكونوا وسطاء خير، وليعلموا أسرة القتيل -رحمه الله- بندمي وتوبتي إلى الله فأنا أدعو الله أن يدخل الرحمة في قلب والد وأسرة القتيل -رحمه الله- بحالتي، وأسأل الله أن يدخل الرحمة في قلوبهم وأن يعفوا عني؛ فهم أناس يحبون الخير.. وأدعو كل من يسعى في الصلح أن يبذله ابتغاء وجه الله تعالى، فنحن في بلاد الحرمين الشريفين بلد الخير والعطاء وبلد التآخي والمحبة.
* كلمة أخيرة توجهها للشباب ومن هم في مثل سنك؟
- الكلمة أن يبتعدوا عن المشاجرات واستخدام أي نوع من الأسلحة أو الأدوات؛ فالشيطان يحرص على أن يحدث ما لا يحمد عقباه.. فكم من مشكلة بسيطة حدث وراءها مآسٍ كما هو الحال في قضيتي، ولينظروا ماذا يحل بأسرهم بعد ارتكابهم لجرائم القتل، فالقتل حرَّمه الله، ويعلم الجميع مصير القاتل فلينظروا أحوال أمهاتهم وآبائهم بعد دخولهم السجن، ولينظروا ماذا جنت أيديهم بقتلهم نفسا حرم الله قتلها إلا بالحق، ليفكر الإنسان لحظةً قبل التسرع في أي عمل، وليأخذوا العبر من نزلاء السجن وليروا الندم على وجوههم وليصلحوا أنفسهم، وأن يعلموا أن الدنيا فانية وأن عقاب الله أشد، وليحذروا من الغضب أشد الحذر فإنه يؤدي بصاحبه إلا التهلكة.. وأعوذ بالله من الغضب.. هذه نصيحة أخوية أوجهها عبر جريدة الجزيرة لكل من يقرؤها ويقرأ قصتي.
|