خطوات وئيدة, ولكنها ثابتة وقوية وقاصدة, خطاها التعليم الجامعي في القصيم.. كانت الخطوة الأولى يوم ان تم افتتاح فرع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل ربع قرن, وكنت إذ ذاك مدرساً في التعليم العام, وشرفت بالتعاون مع الفرع, لإعطاء محاضرات عن (الأدب العربي في المملكة) فما كان حينذاك من المتعاقدين من يعرف شيئاً عنه, بل كان البعض منهم لا يصدق بوجوده، وكانت طائفة من أدبائنا مخدوعة بالقومية التي لا ترى الاقليمية ولا المواطنة القطرية, وترتاب من التجزيئية، الأمر الذي أضاع أدبنا المحلي في ضجة الآداب المحلية, حتى إذا بادرته الدراسات العليا, كان حضوره الذي يليق بمثله.. ولما حصلت على الدكتوراه بادرت الانتقال إلى كلية العلوم العربية والاجتماعية في الفرع, ولمَّا أزل بعد التقاعد استاذاً غير متفرغ للأدب الحديث, ممتعاً نفسي بالنظر إلى غراسي الذي أينع وأعطى ثماره.. وهل من فرحة تعدل فرحة الاستاذ, وهو يرى طلاب الأمس وزملاء اليوم من حملة الدكتوراه والماجستير, يمارسون التعليم, وينهضون بمهمات العمادات, ويؤثرون أساتذتهم, وهم من هم في علمهم وأخلاقهم، وما من أحد يرضى أو يسلم بتفوق أحد عليه إلا الآباء لأبنائهم، وإلا الأساتذة لطلابهم.
وجاءت الخطوة الثانية بافتتاح فرع ل(لجامعة الملك سعود).. ولما كان فرع جامعة الإمام يلحق بالأصل في اعتماد الكليات النظرية, اتخذت جامعة الملك سعود الجانب العلمي، وسار الفرعان جنباً إلى جنب في نمو مطرد, وتنافس شريف, وتنوع مطلوب.
وجاءت الخطوة الثالثة بشراء موقع الجامعة المرتقبة, والبدء في تنفيذ البنية التحتية, وبناء بعض الكليات والمعامل والمختبرات، وتلتها الخطوة الرابعة متمثلة بانشاء جامعة في القصيم, ليكون الفرعان نواة لها, واستبشر الناس, وانطوت مشاعرهم على فرحة غامرة بهذه المبادرات، ثم توجت تلك الخطوات بالخطوة الأهم, خطوة البدء الحقيقي, وذلك بتسمية الجامعة وتعيين مديرها.
نسبت الجامعة إلى الأرض التي منها خلقنا, وفيها نعود, ليكون رفاتنا بعض أديمها, أرض الخيرات والكفاءات, أرض السنبلة والنخلة والرمال والتلال, أرض البطولات في مرحلة تكوين هذا الكيان العزيز بقيادة الملك عبدالعزيز, الأرض التي تمثل واسطة العقد الأجمل, عقد البلاد الفريد بكل مقدساته ومناطقه ومدنه وقراه ورجالاته.. ثم وقع الاختيار لإدارة الجامعة على كفاءة علمية عملية, عركته التجارب الأكاديمية, وحنكته المسئوليات المتعاقبة من تدريس وعمادة ووكالة وأمانة, وتلك التقلبات مكنته من الدربة والدراية, وستمكنه من توظيف هذه المكتسبات لمزيد من النجاحات.. وتعويلنا على من بيده ملكوت كل شيء، ثم عليه وعلى كوكبة العاملين معه من أبناء الجامعتين الأساس.
وحين نستبشر بهاتين المبادرتين: مبادرة التسمية والتعيين, فإننا نتطلع إلى تحرف جديد, وتحيز مفيد, لتكون (جامعة القصيم) الأخيرة في الولادة السابقة في التحديث والتطوير, مبتدئة من حيث انتهت رصيفاتها.. فالعصر العصي لم يعد قابلاً للتردد أو التهيب أو النمطية, إنه عصر المبادرات والمفاجآت والمتغيرات, ومن هاب اقتحام العصرنة المتوازنة عاش دهره في المؤخرة, ومن لم يسدده تقديره الدقيق وتدبيره الحصيف قعد به تسويفه أو تاهت به مجازفاته.
وإذ واجهت مخرجات التعليم الجامعي بعض الاخفاقات, بسبب ضعف التحصيل وضخامة التخصصات النظرية, فإن على الجامعة الجديدة الخلوص من تلك المعوقات, واعتماد (هيكلة جديدة), ترفع من كفاءة الخريجين, وتحول دون التضخم النظري, على أن تتفادى التعرض للانكماش الذي يحول دون استيعاب حملة الثانوية العامة.
فالقصيمي لايريد ان توصد الأبواب في وجهه, وهو يعيش الاحتفالية بولادة جامعة طال انتظاره لها, كما أن أولياء الأمور يودون ان يكون التعليم مرتبطاً بالعرض والطلب, إذ لا مزيد على ما يعانيه خريجو بعض التخصصات من ترقب ممل لفرص العمل.. وإذ تكون مثل هذه الاجراءات مرتبطة بالسياسة العليا, فإننا نود أن يصل الصوت السليم إلى هذه السياسة, لتكون قراراتها وفق المتطلبات، فالسياسة العليا تنصت للمطالب والرغبات, وترصد التطلعات, وهدفها إرضاء الجميع, وتحقيق أفضل النتائج, وقراراتها لا تنزل من السماء, ولكنها تتشكل من الواقع ومما يشير به المنفذون. وإذا تفاعلت السلطات التشريعية مع التنفيذية, نسلت القرارات الراشدة, وتجسد العمل السليم, وأمر الأمة في النهاية شورى, ولأهميته استحضره الخالق في أكبر قضية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}, وأشار إليه في أصغر قضية: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}, والنصيحة جزء من المشورة.
إن أمام المدير الجديد عدداً من المطالب الملحة, لعل من أهمها استكمال متطلبات الأجواء الجامعية. فالجامعة (مكتبة) و(معمل) و(مختبر) و(قاعات) و(ساحات) و(ملاعب) و(مساكن) و(خدمات) و(مطاعم) و(حدائق) تستوعب آلاف الطلبة, وتعتمد اليوم الدراسي, متخلصة من الساعات الفصلية التي تجعل المباني خاوية طوال الثماني عشرة ساعة. ولأن الجامعة مجرد اطلاق تسمية, ولأن طلبة الفروع من قبل يفوق عددهم الخمسة عشر ألف طالب, وهم بازدياد مطرد, ولأن حاجة السوق تتطلب تخصصات معينة فإن المؤشرات تتجه صوب النوعية لا الكمية, وذلك منعطف حساس, يحتاج إلى جهد استثنائي وتفكير عميق, يجنب العملية التعليمية غزارة الانتاج وسوء التوزيع. وعلى المسئولين في كل جامعاتنا توعية الرأي العام المتخوف من الاصلاح المتحفظ على التغيير, وذلك بالتأكيد على أن التعليم صناعة واعداد للمستطاع من القوة: الحسية والمعنوية, وأنه يكون بالنية الصالحة عبادة, وأن من حق المواطن أن تصنعه المؤسسات التعليمية وفق حاجة الأمة, وأن إغلاق قسم وفتح آخر أو التوسع في تخصص دون آخر، لا يرتبط إلا بحاجة المجتمع وبمصلحة المواطن, وعلى الجامعات أن تكون واعية لمتطلبات المرحلة, بحيث تسعى جهدها لسد حاجات الأمة, وعلى (مركز خدمة المجتمع) في كل جامعة التأكيد على أن المفاضلة بين تخصص وآخر مرتبط بإغناء الأمة عن خدمة الغير. وقدر البلاد الأصعب ان عنصر الشباب والانفجار السكاني وتعميم التعليم, تفوق الإمكانيات, وإذا لم تبادر جهات الاختصاص بجهد استثنائي أصبحنا أمام أزمات مستعصية.
والإذعان للرغبات غير الواعية يفوّت على الأمة فرص الاكتفاء الذاتي في كثير من المجالات العلمية والطبية والفنية والحاسوبية والهندسية واللغوية وغيرها, كما أن الطرق التعليمية الحشوية والالقائية انعكست آثارها السلبية على التحصيل الكمي والمهارات الإجرائية, الأمر الذي أشاع الضعف, وبطَّأ بالاكتفاء الذاتي, وأسهم في خلق بطالة غير متوقعة وغير معقولة. ودولة تستوعب أكثر من سبعة ملايين وافد, لا يمكن ان تبادرها البطالة بهذه السرعة, وبتلك الفداحة. ومؤشرات الاخفاق أن تمارس بعض الجهات غير المعنية إدارة توطين الوظائف عن طريق الضغط والإلحاح. إن هناك خللاً مرده إلى مواد التعليم, وتخصصاته, وطرائق أدائه, وشح إمكانياته، وعلينا في مرحلة التطوير أن نجعل (الحبل) و(الفأس) اللذين أعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- للمتسول نبراساً لكل تغيير, لقد أبعده عن صحبته, وأقصاه عن مواطن نزول الوحي, ووجهه صوب الوهاد والنجاد, ليعفه من ذل السؤال. والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يدفع عن الفاضل إلى المفضول إلا بمسوغ، وآية النفور ركزت على التبعيض, بحيث يكون التفقه والإنذار لطائفة من الأمة, فيما تبقى الطوائف الأخرى في مواقعها العملية.. فملازمة الرسول أفضل, وتفقه الإنسان في الدين أنفع, ولكن عارض الحاجة جعل المفضول فاضلاً، وذلك يؤكد أهمية (فقه الأولويات), والمسلم مطالب بالتعادلية, فلا مساس بين مطالب الحياتين, كما أنه في عبادة في مسجده وفي بيته وفي سوقه وفي مصنعه متى حمل همَّ الأمة, ونصح لها, وقصد إغناءها, ولهذا كان أمر المسلم كله عجباً، وإصلاح المناهج يتجه صوب التخصصات وطرائق الأداء، وإقحام (الأسلمة) أو (العلمنة) مزايدة رخيصة وانتهازية مقيتة, ف(العقيدة) و(الوطن) خطاب القيادة, وهما كثنائية (الروح) و(الجسد), ومن أراد العز بغير الإسلام خذله الله، وفي النهاية فنحن لانريد أن يعود المتخرجون إلى بيوتهم, ليكونوا عبئاً على آبائهم, كما لا نريد مدرس الضرورة, ولا نريد وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.
وإذ تكون الجامعة لملمة لفرعين قديمين منتميين لجامعتين عريقتين, لكل واحدة منهما اهتماماتها, ونظامها, وأسلوب تعاملها فإن الأمر تجاوز مرحلة التأسيس إلى معضلة التجنيس والدمج, وطرح الذات المنعتقة من التنميط.
ومع تباين الأداء بين الفرعين, يقوم تباين في المواقع, وتفاوت في القابلية, يضيق أحدهما عن الاستيعاب, فيما يتسع الآخر للاستيعاب, وتتوافر القابلية والأهلية في موقع, فيما تحول ظروف المكان والتصميم دون ذلك في الموقع الآخر, ولكيلا تضيع الجهود بين موقعين متباعدين, يحسن حسم الوضع, وتوجيه الاهتمام صوب الموقع الأصلي القابل للتوسع, ووضع خطة مرحلية لجمع الأشتات, وتفادي العمل المؤقت, وإن كان المثل الانجليزي يقول: (لا يدوم إلا المؤقت)، وليس هناك ما يمنع من تحويل الموقع المستغنى عنه للطالبات بعد تحصينه وتحسينه.
ولقد أشرت أكثر من مرة إلى أن الجامعة أحوج ما تكون إلى توفير الأجواء الجامعية, وبخاصة أنها لم تكن في عاصمة ك(الرياض) المليئة بالمكتبات والمعامل والمختبرات والقاعات المساندة.. والأجواء الجامعية ليست ميسورة بالقدر الذي يتوقعه البعض, ف(المكتبة) -على سبيل المثال- في الفرعين بإمكانياتها ومواقيتها وآلياتها لا تسد أيسر الحاجة, وطلبة الكلية فضلاً عن طلبة الدراسات العليا يجدون حرجاً من شح المراجع, فضلاً عن فقد المكتبتين لمتطلبات الخلوة والحاسوبات والتواصل مع مكتبات العالم.
والمعامل والمختبرات ومجالات التطبيق العملي كل ذلك يتطلب مزيداً من التوسع, ومزيداً من التحديث والمتابعة وتحسين النوعية والأداء.. ولن تكون الجامعة قادرة على الندية والمنافسة حتى تتغلب على أجوائها ومسانداتها, وحتى تهيئ لأعضاء هيئة التدريس كل الإمكانيات والفرص والوسائل المتوافرة لزملائهم في جامعات الحواضر, كالمساكن والخدمات ومدارس الأبناء وسائر المميزات.. ولن نتحدث عن تطلع أعضاء هيئة التدريس إلى كادرهم الموعود, فذلك شأن السياسة العليا, وهي السباقة إلى كل مكرمة، وكل ما نقول تطلعات تختلج في النفوس يمسك بعضها برقاب بعض:
(وما استعصى على قوم منال
إذا الأقدام كان لهم ركابا) |
ومن حق كل مواطن أن يفكر بصوت مرتفع, ليُسمع القادرين على تحقيق الطموحات, فنحن أمة هيأ الله لها ما لم يهيئه لغيرها، والوقوف دون هام السحب إخلال بالأهلية على حد:
(إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم) |
والهواجس والتطلعات على قدر العزمات و(على أقدر أهل العزم تأتي العزائم...) ومعولنا على الوضع الجديد التخلص من هاجس الفرعية, فإمكانيات الفروع ما كانت لتفي بأقل المتطلبات, كانت من قبل بيوتاً مستأجرة وإمكانيات متواضعة, ثم انتقل فرع (جامعة الإمام) إلى المقر الجديد, وتكدست كل الكليات في مبنى كلية واحدة, ثم بدأ التوسع وفق الإمكانيات, وكان فرع (جامعة الملك سعود) لا يقل في أوضاعه المؤقتة عما كان عليه رصيفه, حتى انتقل إلى المدينة الجامعية المرتقبة.
ولما تزل الأجواء دون المؤمل على الرغم من كونها من أولويات المطالب, ودعك من عمادة البحث العلمي والدراسات العليا, وما يتطلبه ذلك من الإمكانيات البشرية والحسية, ولو أن أحداً أصاخ لما يدور بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس وكافة أفراد المجتمع من طموحات وتطلعات لتصور أن الأمر كالغول والعنقاء والخل الوفي, غير أن المسألة دون ذلك بكثير, وتعبنا في الطموحات التي لا تحد, وما على المسئولين من سبيل إذا سددوا وقاربوا وبشروا, والتكليف وفق الوسع.
لن يفوتني وأنا أجمجم عما في نفوس الناس أن أشير إلى جهود مشكورة, واكبت مشروع التعليم الجامعي في القصيم وأنشأته من لا شيء, تبنتها كوكبة من المسئولين, يقدمهم صاحب السموّ الملكي أمير المنطقة المتابع لكل صغيرة وكبيرة في المسيرة التعليمية, كما أنني بثناء لا يحد على جهود الجامعتين الأصليتين: (جامعة الإمام) و(جامعة الملك سعود) ومن ورائهما معالي وزير التعليم العالي. والشكر موصول لكل من يحمل همَّ أمته, أو يباشر العمل بصدق وإخلاص وأهلية.. وكل عامل ناصح ينال حظه من شرف الخدمة للدين والوطن, وكل عامل متفانٍ يؤدي واجبين: واجب المسئولية وواجب المواطنة, ولا يكتم أفضال المتفضلين إلا العققة.. وكل مسلم على ثغر من ثغور الوطن, والسعيد من يسطر على صفحات تاريخه ما يشرفه, ويشرف انتماءه لهذا الوطن الذي أعطى الكثير, ولم نرد له أيسر حقوقه.
ولما لم يكن في حسابنا ان تختط الجامعة الجديدة لنفسها خطة منفردة, ولا أن تكون في معزل عن أنساقها وسياقاتها ورصيفاتها, ولا أن تقفز فوق الحواجز والإمكانيات فإننا نربط أنفسنا ونقيد طموحاتنا بمعطيات الواقع, وهو واقع مواتٍ, وقادر على تخطي العقبات.. ومن أراد ان يطاع فليطلب المستطاع, وليس من المنطق الخنوع لما يتصوره المتشائمون واقعاً غير مواتٍ.
وإشكالية البعض تكمن في وقوعه تحت طائلة (نكون كما نريد, أو لا نكون), فيما يكون الأفضل أن نشتغل في المساحة المتاحة, ونحاول استغلال أقصى طاقات المتاح, على مبدأ (خذ وطالب), والجامعة في بدايتها لن تحقق كل الطموحات, ولكنها بالتدبير والمواربة وترتيب الأولويات والمطالبة الملحة ستجتاز مشاكل البدايات, وهي مشاكل مقدور على تذليلها.. وكم نحن سعداء بهذا الحدث التاريخي الذي طال انتظاره, فجاء مولوداً سوياً, وجاءت بوادره كالمبشرات, ورهاننا رهين الكفاءات والإمكانيات والأجواء وحسن النوايا, وهي قائمة فيمن وُكِّلَ إليهم الأمر, نحسبهم كذلك, ولانزكي على الله أحداً.
|