يجتاز الطفل بين السادسة والسابعة مرحلة يصح أن نسميها مرحلة التجريد النظري، فإنه يشرع في النظر إلى ما وراء المادة وإلى أبعد مما تبصره عيناه، ويحاول في هذه المرحلة أن يصنف المرئيات وأن يكتشف العلاقة فيما بينها ولا يكتفي بالمظاهر الخارجية.
ويتألم الأطفال في هذه السن أكثر مما يظنه الوالدون، لأنهم في نزاع دائم بين العالم المادي والحسي، والعالم المجرد من المحسوسات. ففي هذه السن كان بعض الأطفال الذين انتهوا فيما بعد إلى أعلى مراتب الذكاء، يذرفون الدموع كلما استعصى عليهم فهم مسألة عويصة!
ويطلق على هذا الطور من أطوار العمر، اسم (سن الحلم) أو سن الوعي. وفي هذا الطور تتكاثر أسئلة الطفل ويزداد إلحاحه على أهله لكي يفسروا له الغوامض، فلا يكاد يكف لحظة عن طرح سؤال على أمه أو أبيه. إلى حد جعل بعض علماء النفس ينعتون الطفل في هذه المرحلة من العمر بأنه (حيوان سائل).
ويحكى عن عالم من علماء النفس أنه زهقت روحه من تهاطل أسئلة ابنه عليه، فاستسلم قائلاً في النهاية لابنه: (لا أدري لماذا). فعاد ابنه وسأله (لماذا لا تدري؟)..
وفي هذه السن أيضاً تتكون في عقل الطفل المقاييس الأخلاقية فيشرع إصدار الأحكام على سلوك أهله وتصرف (الكبار) بحضوره. فتراه في كل الظروف محاولاً أن يعرف (هل هذا الفعل فعل حسن) أم (هل هو سيئ). وبديهي أنه يتلقن المقاييس اللازمة للحكم، من بيئته ومحيطه. ولذلك يعتبر خبراء التربية أن هذه المرحلة دقيقة جداً وخطيرة. فحسبما تقول للطفل أن اختلاس القلم من جيب رفيقه عمل سيئ، أو عمل حسن، تكون قد ركبت في عقله مقياساً أخلاقياً مستقيماً أو معوجاً.
فلا بد من العلم أن مفهوم الخير والشر ليس مفهوماً غريزياً، بل إنما هو مفهوم (مكتسب). فقد يكون العمل نفسه شراً في فرنسا وخيراً في إسبانيا، كما قال كبير الفلاسفة (باسكال).
محاسبة النفس: عادة حميدة
هذا ما جعل الكثيرين من خبراء التربية ينصحون الوالدين بغرس عادة حميدة في نفوس الأطفال منذ بلوغهم سن الحلم، وهي عادة محاسبة النفس. فإنه يستحسن جداً أن يختلي الطفل بنفسه مرة في اليوم لكي يتساءل هل كانت أعماله مطابقة للمبادئ التي تلقنها؟
فضلاً عن أن هذه العادة حميدة جداً من الوجه الأخلاقي، فإن فوائدها كثيرة أيضاً من الوجه العقلي لأنها تحمل الطفل منذ نعومة أظفاره على التأمل والإمعان في التفكير.
قال عالم سويدي: أفضل محاورة للإنسان هي التي تجري بينه وبين نفسه. ولست أخشى شراً من الذي يحاور نفسه.
ومن الخطأ أن يظن أهل الولد أنه (مجنون) إذا سمعوه محاوراً نفسه ومتكلماً بصوت مرتفع مع ذلك الشخص الثاني الذي يناجيه الطفل أحياناً ولا يراه أهله! فإن هذا الانعطاف على الذات من أسطع الأدلة على الوعي وعلى كرامة النفس. فكما قال أخلاقي آخر: النفس تحلق على قدر طاقة صاحبها بالنزول إلى أعماقها!
وفي مجرى الفكرة نفسها يستحسن جداً أن يسمع الطفل في هذه السن أمثلة الكرماء أصحاب الهمم لكي يجد صورة يتمثَّل بها. فإنه بحاجة شديدة إلى الاقتداء بالغير. ولا بد له من قراءة حياة العظماء وسماع قصص كبار النفوس لكي ينشأ على النبل وعزة النفس.
|