Sunday 27th June,200411595العددالأحد 09 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

غرفة العمليات غرفة العمليات
أحمد عبدالكافي الحمادة/مدارس الفيحاء الأهلية - الرياض

ثمة أسفار كثيرة غير معلنة قد خبأها لي القدر. هذا آخر ما تلفظ به (عبد) قبل أن يدخل إلى غرفة العمليات الجراحية. بعد ثلاث ساعات جاءت به ممرضة تدفعه أمامها على سريره المتنقل على عجلات. ابتدأت الأعين تتطلع عليه مسترحمة حاله المنهكة.. بعد منتصف الليل عاد إليه وعيه وبدأ يتذكر أهله، أول ما رأى دمعة نازلة من عيني أمه قال له أخوه الوحيد: ستكون العملية الأخيرة إن شاء الله. ردت الأم: ست عمليات في أقل من سنة، الله يساعدك يا ولدي!، قال أخوه: في المرات السابقة كانت العمليات تجرى له في مشفى حكومي، قال: وهل كانت كل العمليات السابقة إلا نتيجة لخطأ العملية الأولى، آلاف العمليات تجرى يومياً في العالم على حالة تشبه حالتي تماماً، بل إن حالتي لا تستدعي أكثر من طبيب متدرب فقط لإجرائها، ما معنى استئصال كيس ماء من بطن مريض!! وهل كنت بالأصل شاعراً بذلك الكيس!! إلا مصادفة، فلولا مجيء أخي إلى المشفى لما طلبت المعاينة من الطبيب قال إن حالتي خطيرة نظراً لوجود كيس ماء كأننا في مشرح أدخلوني فوراً إلى غرفة العمليات، وبعدها بدأت المعاناة.
بدأ يسعل ببطء، تحشرج كلامه ثم أكمل أخوه عنه للطبيب: لم يكن هناك شيء في بطنه سوى أن الطبيب المعالج نسي بعض الشاش فيها. بعد فترة تعفّن، ثم ترتب على ذلك إجراء عملية أخرى، ثم كان هناك قيح وضعوا عملية (قسطرة) في بطنه لتنظيف القيح، في حين كانت القسطرة في المكان الخطأ تركت زمناً حتى جرحت الكبد ثم راح الكبد ينزف.. تضاعفت مشاكل الكبد والأمعاء وتوسع القيح.. ثم أخذ يسعل باستمرار دماً.. وتوالت العمليات.. غيّرنا دمه عدة مرات وتبرع كل شباب القرية بالدم جاؤوا إلى المشفى في غاية السرور والتضحية، واستمرت حالته بالنقصان إلى أن وصل إلى هذه الحالة.
مرّت ليلة القدر من شهر رمضان المبارك دون مضاعفات جديدة، ثم عاد بعد أسبوع إلى القرية بصحبة أهله. بدأ يتحسن بشكل ملحوظ.. لكنه دخل في حالة نفسية مزرية، ثم عاد إليه السعال من جديد دخل غربة بين أهله فانطوى على نفسه غير مكترث بالناس الذين يزورونه يومياً وبالعشرات. نادى زوجته أن تحضر له الأولاد، جاء الطفلان، قبَّلهما بحرارة الوداع واحتضنهما بألفة وحنان, ثم قال بصوت متحشرج كأنني عدت إلى وطني بكما, ترك أمه وأخاه وزوجته وهمس في أذن ولده الوحيد ذي ست السنوات: كن رجلاً يا ولدي، ولا تزعج أختك أنتما لبعضكما من دون الناس لا تعاكس جدتك وعندما تكبر تكفل بها.
جاء صوت زوجته مكتوماً خانقاً: لا تتكلم بذلك يا رجل أنت ستعيش - إن شاء الله تعالى - وترعاهم حتى يكبروا.. رشقها بنظرة ساخرة وقال: أمي ستتكفل بهم من بعدي أما أنت..!!
انفجرت أمه بالبكاء، وقال له أخوه: ما هذا الكلام يا أخي أنت تتحسن، وقد زاد وزنك. ابتسم بسخرية يائسة ثم أردف قائلاً: وهل وصل وزني الثلاثين.. ربما أما كنت قبل مرضي أكثر من السبعين؟، تمدد وسط ولديه وسمَّر عينيه في سقف الغرفة، جاءه صوت ولده حاداً كالسيف: (بابا لماذا تريد أن تسافر؟.. ابق معنا أنا أريدك). لم يعره انتباهاً. وضع الولد يديه تحت حنكه وأسند رأسه عليهما وهو يتفرس بأبيه من رأسه حتى قدميه، عيناه بارزتان وسط محاجر واسعة، وجبين ضيق مع بروز عظمة الصدغ؛ ثم ارتفاع الوجنتين بشكل عار، وبروز الأنف وكأن الوجه كله أنف فقط تحته شارب، وفم انكمش على نفسه ولم يعد يلائم الفكين العظميين، بدأت لهاته تندفع إلى الأعلى وإلى الأسفل ظاهرة من القفص الصدري حتى الفكين.
مد الطفل إصبعه إلى عنقه وراح يتابع تحرك تفاحة آدم مشيراً بالإصبع إلى حركاتها البطيئة مع الأنفاس.
تسللت يد الطفل إلى صدر والده.. فك الأزرار، وضع أذنه على مجموعة العظام التي تشبه القفص الصدري، وراح يحبس أنفاسه، وينصت ثم يقوم بحركات مثل حركات الطبيب فقال: قم بابا ما فيك شيء لماذا أنت قاعد!!
بدأ يعد العظام: واحد ،اثنان، ثلاث، بابا هناك عظم ناقص! من سرقه منك هزَّ الطفل رأسه ثم قال: هذا أكيد الطبيب الذي عمل فيك ذلك!!.
تناول الغطاء بهدوء إلى صدر والده وعاد بصمت إلى وضعه السابق يحدق بانتظار شيء ما على وجه أبيه المنهك، وكأن حشرة تسللت إلى دهاليز معدته وقبلت صداقة الجسد المنهك، لذا ينتظر خروجها الوشيك!.
عينان مضرجتان بالرجاء تحاولان الخروج من قفص الحقيقة لتعودا إلى الحلم الأكيد، وطفل يعبث برحلة الحلم ويحاول أن يخرمش هدأة روحه في صفاء غير ذي ضرورة.
مرَّ العيد والسعال يزداد، وداخله يتصبب بالحمّى ورعاف الخنجر المغروز في كبده ينشط رويداً رويداً كأنه يعلن عن قرب انتهاء إجازة العيد ولزم عليه السفر من جديد. بدأ وجهه يشبه الموت، حتى صوته أخذ ينكسر على أزلية الفراغ المنبعث من ملامح زوجته الخشنة، كأن صمتها مفاجأة الرحيل الطويل.
ولأن تفاؤله استطال فقد اضطر أخوه إلى الاستدانة.
لم يكن ثمة قرار أصعب من ذلك، فحالته في انزياح نحو الأسوأ رغم أن السفر الطويل سيزيد من مشاكل صحته لكن البقاء هنا في قرية على أطراف الفرات ستجعله اقرب إلى (الرمضانية)(1).. احتفظ بيأسه في قلبه، واتجهت عيناه بنقطة من الفرح إلى والديه والزوجة الباكية بصوت مخنوق تحبس أنفاسها من تلك الحقيقة الساطعة كوجهها المحموم.
قال لها: سأهديك صحتي بعد عودتي سالماً، وسنزرع الأرض معاً وسنحصد المواسم الوفيرة، وسيكبر مثل اتساع عينيك وعمقهما المتعب الحزين.طمأنها وهو المتشبث حتى البلادة بشعرة الرجاء وبزغب الحلم المفقود في لحظة السقوط المفاجئة وهو الذي يعرف ماذا سيحل بها وهي المرأة التي لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها.
في المساء وصلوا إلى دمشق حجزوا غرفة في مشفى خاص ثم تقررت جلسة سريعة لإعداد تقرير خاص وسريع عن حالته.خرج رئيس الأطباء بقرار أن هذا الرجل وصل إلى حالة مرضية فريدة من نوعها فأكد لهم بصوته الواثق انه لا توجد في العالم إلا حالة واحدة في أمريكا، والحالة الثانية: هي هذه، فمعدة هذا الرجل وأمعاؤه وكبده والحجاب الحاجز وجدار البطن كلها قد أنهكت تماماً، وهي غير قادرة على تنشيط حركة الدم إلى القلب.
قرر أن العملية سوف تجرى بعد ثلاثة أيام وأن التكلفة ستكون باهظة.
دُهش الأخ من ذلك وأراد التأكد من الطبيب من جدوى هذه العملية.
ما دامت هناك قوة في الدفع النقدي ستكون هناك قوة في المشرط في استئصال العلة، هكذا ضغط بقوة على مخارج الحروف لتبدو صادقة مع أن المشرط هو سبب العلة!!.
قالت الأم - بيأس المجرب المرير -، وهي تزمّ شفتها السفلى: وهل هناك أمل؟! ردّ الطبيب بكل ثقة: الأمل موجود.. وبعد العملية سيبقى تحت المراقبة المشددة لمدة عشرين يوماً إن شاء الله تعالى.
في المساء قبيل إجراء العملية تراجع المردود الدموي للقلب، وراح يضيق نفسه، بدأت الأم - ذات الثوب الطويل والوشم الفراتي الأزرق الفارق في الجبين، وعلى اليدين، وتحت الشفاه - بإنعاش ابنها بالهواء أخذت تحرك بيدها ثوبها الأسود بحركات مرتبكة وسريعة، وراحت تنشد أناشيد الريف الغارقة بالأرض والسمرة حتى النخاع، كأنها لا تريد أن تضيّع كأس ماء في صحراء يلاحقها العطش الأبدي.
قال لها: لم يعد يهمني أي شيء في هذه الدنيا أريحي نفسك واجلسي يا أمي، لقد وصلت معي إلى هنا (وأشار إلى حركة تفاحة آدم في حلقه) اجلسي واتركيني ألاطف ذلك الشيء الجميل الذي بدت عيناه كأنهما تنادياني وهو يشير إلى زاوية الغرفة من الأعلى حتى أحلامي القريبة بدت مستباحة ومسفوكة دونما رحمة من أي أحد.
كسر مجيء الطبيب لحظات الدموع الأخيرة بينهما معلناً عن اقتراب موعد العملية، بدت حركات الطبيب واثقة وجديرة بالاحترام من قبل أهل المريض ثم ترك لهم ابتسامة كبيرة صفراء زارعة في وجدانهم تفاؤله (ستمنح له حياة جديدة) - إن شاء الله - في منتصف الليل.. وفي هدوء تلك القرية الترابية التي نامت باكراً على أصوات الضفادع وهسيس الليل، وأنفاس الحيوانات الأليفة، بدأ يمخر عباب الليل صوت جرس الهاتف استمرَّ طويلاً حتى نهض أحدهم، ردّ عليه بتكاسل مثقل بالنعاس، فجاءه الصوت حزيناً ومبللاً بالدموع. وفي ظهيرة اليوم التالي على غير عادته جلس الطفل في مدخل القرية وكأنه شعر بالحركة غير الطبيعية في البيت.
وراح ينتظر شيئاً ما، ومن الأفق الغربي لمح موكباً عظيماً من السيارات تسير ببطء قادمة نحو القرية، تساءل الطفل في سره: ترى فرحة من هذا اليوم؟، آه يا أبي لو أنك معها لكنت الآن معك أمدُّ برأسي من نافذة السيارة ملوحاً بشال جدتي لأختي (أمونة) وهي تسوق الماعز إلى الحقل!.

(1) الرمضانية: مقبرة القرية.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved