من السهل أن ترشد الضالّ إلى الطريق الصحيح فينصاع لإرشادك، ويشكرك على دلالته، وأن توجِّه المخطىء إلى الصواب، فيقدم لك عبارات الشكر والتقدير على توجيهك، ولكن الأمر الأصعب الأكثر تعقيداً هو توجيه من يعيش وهم الصواب وهو مخطىء، ومن يغرق في وحل شبهة يضرب عليها الأمثلة ويلوي لها أعناق الأدلة، وينظر إليك إذا أرشدته نظرة المستهزىء، أو المشفق عليك من سوء فهمك لصوابه الوهمي، أو لشبهته المسيطرة على عقله، لأن هذا الواهم الذي يظن خطأه صواباً ينغلق ذهنياً، فما يرى إلا نفسه، ولا يعرف إلا صوابه الوهمي الذي يستميت من أجله، ويرتكب الأخطاء الكبيرة في سبيله حتى تتراكم عليه الأوهام، فما يستطيع بعدها أن يرى صواباً، وأن يقبل رأي عاقل، أو نصيحة ناصح، أو موعظة واعظ.
يروى عن واصل بن عطاء أنه مرَّ في سفره بفرقة من الخوارج، ومعه بعض أصحابه فاضطربوا خوفاً منهم، فقال لهم واصل: لا عليكم دعوني أتحدث معهم فأنا أدرى بحالهم، فلما دنا منهم وجهوا سؤالهم مباشرة: من أنتم؟ قال: قوم من النصارى نريد مكان كذا، فقال لهم قائد الفرقة: ألا تسلمون قال واصل: بلى، يعجبنا ذلك، قال له: وتكونون على مذهبنا، قال نعم، فأظهروا العناية بهم، وحرسوهم حتى بلغوا مأمنهم، وكان واصل بن عطاء يخشى أن يخبرهم بحاله، وأنه من المسلمين، وكان من أهل الاعتزال فيدخل معهم في حوار عقيم يكون ثمنه رأسه ورؤوس أصحابه تتلاعب بها سيوف القوم، ومثل هذه الحالة تدل على الزاوية الحادة جداً التي ينطلق منها فكر هؤلاء الناس، وتبنىعليها أفعالهم التي يظنونها صواباً، وما هي بالصواب.
إن المسلم وغير المسلم إذا أدخل نفسه في زوايا ضيقة من الرؤية والتفكير، ونظر بمنظار أسود قاتم إلى الأحداث والأشخاص، يكون قد حكم على نفسه بالسجن المؤبّد في زنزانة الوهم التي لا تترك لصاحبها مجالاً أن يرى بصيصاً من النور يدلّه على ظلام رؤيته وفكره، وهنا سيكون ضحية (الوهم) بصواب خطئه، وخطأ صواب غيره، مهما كان الحق واضحاً، لأن المشكلة تصبح راسخة في نفسه المعتمة المسكونة بالتعصب الأعمى والغلو، وعندها تختلط الأمور عليه اختلاطاً يخرجه من دائرة الصواب، وهو لا يشعر، فلا يعرف الفرق بين معنى قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وبين معنى الإرهاب القائم على الإرهاب وإثارة الفتنة والمسارعة إلى إراقة الدماء بغير حساب، لأنه قد أغلق على نفسه منافذ الوعي والعلم بالحق، ومعرفة دلائل نصوص الشرع، وإدراك مواطن الاستدلال بها في واقع الحياة.
لقد كانت الحروب تدور ساخنة بين جيوش فارس وجيوش الإسلام، وكان في الوقت نفسه أبو لؤلؤة المجوسي يعيش في أمان واطمئنان في عاصمة دولة الخلافة الراشدة في المدينة المنورة، بل إنه وجد طريقه إلى مجلس عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ليشكو إليه حاله مع سيده المغيرة بن شعبة ولم يخطر ببال أحد من المسلمين أن يقتل أبا لؤلؤة لأن جيوش دولته الفارسية تحارب المسلمين هناك في القادسية وغيرها، ولم يختطفه أحد من منزله، أو طريقه، أو مكان عمله، فهو قد مُنِح الأمان، وأصبح ذا عقد وعهد، وما دام كذلك فهو آمن على نفسه، وماله، وعرضه في مجتمع مسلم يعرف الحقَّ، ولا يضطرب في فهمه.
إن الذين يعيشون (وهم الصواب) هم الذين يقعون في أوحال الاضطراب، ويرتكبون الأخطاء التي تضعهم في مواضع الإجرام وتبعدهم عن ساحة الحق التي يدعون.
إن تلك الحالة المزرية المؤسفة لذلك الرأس الموضوع على ظهر جثة صاحبه لا تمت إلى ديننا الحق بصلة، مهما كانت مسوغات من ينظرون إلى الأمور بمنظار ضيق، ويحشرون أنفسهم في زوايا حادة معتمة، مع أنهم يرتكبون جرائم واضحة.
إن المسلم الحق يبرأ إلى الله عز وجل من الغيلة والغدر، ومن خفر الذمام، ونقض العهود، واستباحة دماء البشر، بحجج (واهية) في حقيقتها، وإن كانت ذات قيمة عند من يحملها ويبني عليها إرجافه وإرهابه واعتداءه وجرائمه الشنيعة.
إشارة
فكيف تطلب تغريد البلابل في
روض يشيع به التضليل إرهابا |
|