(تجديد الخطاب الديني) تعبيرٌ ينطلقُ في معناه وأهدافه من ضرورة مواكبة الخطاب الإسلامي للمتغيرات المستجدة طلباً لتحقيق المصلحة الدنيوية للإسلام والمسلمين، هذا المطلب المتداول الآن وبقوة لم يخرج من فراغ، ولم يأت دونما سبب، إنما أتى نتيجة لضرورة ملحة تأخذ مسببات ضرورتها من الواقع الذي نعيش فيه، والذي لم يعد مثلما كان قبلاً، فقد انتفت عنه الخصوصية، وتقاربت فيه المسافات، وتداخلت في تشكيلاته المعرفية الثقافات، فتباعد الأمكنة جغرافياً لم يعد يُمثل حاجزاً بين الإنسان والإنسان، ولا بين الثقافة والثقافة، كما هو الوضع السابق، سقوط هذه الحواجز كان لابد وأن يلقي بتبعاته على الخطاب الديني بالشكل والمضمون الذي يجعل من تجديده لمواكبة هذه التغيرات أمراً في غاية الإلحاح.
وعندما نطالب بتجديد الخطاب، فنحنُ هنا لا نطالب - البتة - بتغيير مفاهيم شريعة الإسلام، ولا بتجاوز أهدافها ومقاصدها، وإنما ندعو إلى (تفعيل) التعامل مع هذه الأهداف والمقاصد من خلال إعادة النظر في (فقهها) على وجه التحديد، على اعتبار أنها - من حيث المبدأ - تسعى لتحقيق المصالح، وهذا ما تنبه إليه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، عندما جدد في شروط بعض القضايا الفقهية مواكبة منه لمتطلبات المصلحة في عصره، ولعل أشهر أعماله في هذا الشأن تعليق حد قطع يد السارق عندما حلت بالمسلمين المجاعة عام الرمادة على أساس أن قصد الشارع من (القطع) كان الردع، ولم يكن مجرد القطع، لذلك رأى أن (المجاعة) ظرف جديد، قد غير من الظروف التي نزل حد القطع فيها، فكان لابد أن يواكب هذا التغير تغير موازٍ في (الفقه) طلباًَ للمصلحة، وفي ذلك يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: (لم يتردد كثير من الفقهاء المجتهدين في الخروج عن هذه السلسلة، سلسلة التقليد، والرجوع بالرأي الاجتهادي إلى الواقع واعتبار المصلحة فيه، والاقتداء في ذلك بالصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فكان أن صاغ بعضهم قاعدة كلية تنص على أنه إذا تعارضت المصلحة مع النص روعيت المصلحة، باعتبار أن المصلحة هي السبب في ورود النص (في مجال المعاملات والعادات)، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتجاه، وتارة في اتجاه مخالف).
وإذا اتفقنا على ضرورة التجديد، فإن أهم هذه القضايا المُلحّة التي أرى أن نبتدئ بها تنحصر في تقديري في ثلاث مسائل:
أولها : مفهوم الجهاد. وثانيها: مفهوم الولاء والبراء. وثالثها: مدى سريان الربا المحرم شرعاً في اقتصاد يقوم على أساس النقود الائتمانية والبنوك كما هو الوضع اليوم.فالجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو كذلك بلا شك، فلولاه لما تحقق للإسلام كل هذا الانتشار، ولكن هل الجهاد بمعناه القتالي، وبالذات جهاد الطلب، صالحٌ في زمن أصبح فيه إشاعة (السلام والأمن الدوليين) غاية مطالب الشعوب؟ هنا لا بد من القول: إن الجهاد هو وسيلة، أما الهدف فهو عزة الإسلام ونشره، والعمل على جعل كلمة الله هي العليا، وهذا الهدف أمكن تحقيقه دونما قتال، فقد أثبتت الإحصائيات أن الإسلام، قبل 11 سبتمبر، كان الدين الأول من حيث سعة الانتشار في المجتمعات الغربية، فما الداعي للقتال إذن؟!.. وغني عن القول: إن اختزال الجهاد في (الجهاد القتالي) والعنف، كما يصرعلى ذلك المتشددون، والتكفيريون، أو من يسمّون بالجهاديين، أضر بالإسلام، وحدَّ من انتشاره، وجعل العالم يأخذ انطباعاً عن هذا الدين أنه دين الهمجية والعنف وإراقة الدماء، والحقيقة، كل الحقيقة، خلاف ذلك، حتى وإن حملت ثقافتنا الماضوية في بعض مظانها وفق مفاهيم البعض، وردد بعض العلماء المتكلسين مفاهيم قد تحملُ في منهجيتها واستدلالاتها ورؤاها ما يتكئ عليه الجهاديون الإرهابيون للأسف.
وما ينطبقُ على الجهاد ينطبقُ على مفهوم (الولاء والبراء) هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود (الدولة) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم (منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر)، في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع، حيث أصبح التعاون بين الأمم، وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن هذا التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغيرٌ مواكبٌ في مفهومنا للولاء والبراء، بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.. فالعملية قائمة حسب شروط اليوم لا الأمس.بقيت المسألة الثالثة وهي مدى سريان الربا في البنوك التجارية، هذه القضية من القضايا الخلافية كما يعرف المتخصصون، غير أنها لدى البعض من المسلمين مسألة قطعية من يناقش فيها ولو مجرد نقاش، فإنه قد يرفض معلوما من الدين بالضرورة، إلا أن ذلك يجب ألا يمنعنا من محاولة فهمها على ضوء معطيات المقارنة بين طبيعة اقتصاد المدينة زمن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، أو كما يسمى (اقتصاد المقايضة) وبين اقتصاد الائتمان الذي يحكم التعاملات الاقتصادية اليوم، وقضية البنوك تحتاج في التعامل معها من وجهة النظر الشرعية إلى علم وسعة أفق وصلابة، لا سيما وأن نظام (النقود والبنوك) أصبح اليوم معيناً تستمد منه الأمم رفاهيتها، وتقيم عليه قوتها ومنعتها واستقرارها، وليس بالإمكان إطلاقا الاستغناء عنه إلا وترتب على ذلك كارثة تدميرية اقتصادية مؤكدة، فنحن في ظل الأوضاع والمفاهيم الاقتصادية العالمية مجرد حلقة صغيرة في سلسلة عالمية، وتغيير إحدى الحلقات دون أن تتغير السلسلة، سيحيلنا اقتصادياً إلى حلقة صدئة على قارعة الطريق.
بقي أن أقول: إن حل هذه المعضلات الثقافية الثلاث، وتجديد مفاهيمها حسب مقتضيات العصر والمصلحة، هي من أهم الخطوات الفعالة لإجهاض (إفراز) الإرهاب والإرهابيين وتفنيد حججهم، ومن دونها سنبقى نحن وثقافة الإرهاب بين (حانا) تارة و(مانا) تارة أخرى.
|