العفو كلمة جميلة، ذات معانٍ حبيبة إلى النفس؛ لما تحمله من دلالات التسامح الذي يجب أن يقدِّره الإنسان تقدير من يميل إلى العَفْو ويحرص عليه.
إنَّ من معاني كلمة العفو: الصفاء، يقال: عَفا الماء إذا لم يطرقْه شيٌء يكدِّره، ويقال: عفَّى فلانٌ ماكان منه: أي أصلح أمره بعد فساد، وصفَّاه بعد كَدَر، وعفوتُ عن ذنبه: أي تركته ولم أعاقبه طلباً لتوبته وإقلاعه عن ذنبه، والعافية من ذلك، ولهذا ندعو بها فنقول: عافاه الله، وأعفاه مما يجد، أي أزال عنه ما آلمه وكدَّره.
ومما تعارف عليه الناس قديماً وحديثاً أن نداءَ العفو لايُرَدّ، وأنَّ طالب العفو يستحق أنْ يُستجاب له، كما أنَّ مانح العفو والداعي إليه يستحق أن يُجاب ويٌقدَّر ويشكر، وليس بعد رفض العفو إلاَّ الشدَّة، وفي القرآن الكريم يقول الله عز وجل: {عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ} (95) سورة المائدة. ويقول تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (40) سورة الشورى. ويقول تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (237) سورة البقرة. ويقول عز وجل: {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (14) سورة التغابن.
فهنا عَفْوٌ مطلوب محمود، واستجابة له مطلوبة محمودة، ورَفْضٌ له مكروه مذموم ونصُّ القرآن الكريم واضح في الآية الكريمة {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ}: أي من عاد إلى ذنبه وأخطائه واعتدائه بعد أن بُذل له العفو فإن الانتقام بعدها سيكون من الله عزَّ وجل، وما أصعبه من انتقام.
وأقول: هنالك انحرافٌ في الأفكار، وجنوحٌ في التصوُّر حصل لطائفةٍ من أبناء هذا البلد الطيب المبارك، تبعه انحرافٌ واضح في الأعمال، وجنوح إلى العُنْف والقتل وإهدار الدماء، وارتكاب للبغي الذي يسيء إلى المجتمع، والأمَّة، ويشعل نيران الفتنة، ويضعف تماسك الوطن في مواجهة أصناف الغزو الثقافي والإعلامي والعسكري، وهذا الانحراف لا يمكن أن يؤدي إلى خير، أو يحقق شيئاً من الإصلاح الذي يدَّعيه من سلكوا هذا السبيل المظلم, ولا شك أنّ ذلك كلَّه مخالفةٌ واضحة لشرع الله، وفهمٌ خاطئ لتعاليم هذا الشرع الحكيم، وأنَّه بَغْيٌ واضح صريح، وقد رأينا جميعاً الاثر السيّىء الذي تركه هذا المسلك (الإرهابي) في نفوسنا جميعاً.
إنَّ هذا الانحراف وهذا البغي يحتاجان إلىمواجهة صريحةٍ قولاً وعملاً، وإذا كانت الدولة ورجال أمنها قد بذلوا ويبذلون جهوداً مشكورة لمواجهة هذا الانحراف عملياً وميدانياً، فإنَّ إعلان العفو الكريم من خادم الحرمين الشريفين، بصوت ولي العهد سمو الأمير عبد الله بن عبدالعزيز، يُعَدُّ خطوة طيبة مباركة مشكورة، لأنه (عَفْوٌ) والعفو كلُّه خير، ولأنه يتيح فرصة لأبنائنا الذين انحرفت بهم الشبهات عن طريق الحق ليعودوا عَوْداً حميداً، ويصحِّحوا ما يحملون من أخطاء الفكر والتصوُّر، والمعتقد، ويكونوا على مستوى الشجاعة والمسؤولية، وهذا العفو فرصة كبيرة لهم ليستمعوا إلى أقوال العلماء الموثوق بهم الذين يؤكدون ليل نهار أنَّ الأعمال التي جرت محرَّمةٌ شرعاً بنص القرآن والسنَّة، ولو لم يكن فيها إلا إيقاظ الفتنة, وإشاعة الاضطراب في المجتمع، ومحاولة زعزعة الأمن فيه لكفى، فكيف بها وهي أعمال ظالمة تعتدي على الآمنين، وتهدر دماء المعصومين وأموالهم؟.
خذوا العفو، وعودوا إلى الصواب، واعلموا أنَّ الطريق الذي سلكتموه لا يأتي بخيرٍ لكم ولا لبلدكم ولا لأمتكم أبداً. وتأكدوا أنَّ الأخطاء والسلبيات الموجودة في بلادنا لا يمكن أن تعالج بمخالفة شرع الله، ولا بالتشويش على ولاة الأمر، ولا بإرهاب المجتمع وإرعابه وزعزعته.
إشارة
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم.
|