Friday 25th June,200411593العددالجمعة 7 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "أفاق وأجنحة"

أعظم مقومات الترابط أعظم مقومات الترابط
عبدالله بن محمد الغميجان ( * )

إن من أعظم مقاصد الشريعة تحقيق اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، وائتلاف القلوب في المجتمع المسلم، ليكونوا يداً واحدة، وقلباً واحداً، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.
ومشرعية الجماعة في الصلاة خلف إمام وقيام النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية صفوف المصلين بيده، وقوله لهم (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، يؤكد هذا المعنى ويبين أن اختلاف الظاهر ناتج عن اختلاف في الباطن، وتنافر الأجساد ثمرة تنافر القلوب، والمتحابون المتوادون لا يتباعدون ولا يتنافرون.
وقوة الأمة، وهيبتها، وعزها مرهون بوحدتها، وتآلف قلوب أفرادها، وتآخيهم، ولا ينال الأعداء من الأمة إلى من خلال تفرقها، وتنازعها فيما بينها، حين تغلب المصالح الخاصة على العامة، والحظوظ الشخصية على الحقوق الجماعية، ولذلك ترى أعداء الأمة ينفخون في بالون الخلافات، ويذكون نارها، ويفجرون فيها النزاعات القبلية، والنعرات العصبية، والخلافات المذهبية، والانقسامات الحزبية، حتى يسهل عليهم السيطرة عليها، ونهب خيراتها، وهم يفعلون ذلك بحيل شتى، يساعدهم في ذلك امتلاكهم لآلة إعلامية رهيبة متمرسة على أساليب التضليل والتغرير وقلب الحقائق، يتظاهرون برعاية مصالح الشعوب، والدفاع عن حقوقهم, وهم في الحقيقة يريدون سحقهم واستعبادهم، إنها مجرد شعارات فارغة لا حظ لها من المصداقية، ولا وجود لها في أرض الواقع، وإن الصور البشعة في فلسطين والعراق وغيرهما من بلدان المسلمين أعظم شاهد، مما يوجب علينا الحذر من ألاعيبهم، وعدم الانخداع بمعسول كلامهم، وأن نكون أمة واحدة، وصفاً واحداً، ويداً واحدة، وهذا لا يتحقق بمجرد الأماني، ولكن بالعمل الجاد الدؤوب والمثابرة، والنظر السليم، والتفكير السديد، والاعتبار بالمصالح والمفاسد، والنتائج والمآلات، ألا وإن أعظم ما يتحقق به الاجتماع والائتلاف ووحدة الصف أن نعمر قلوبنا بالمودة والمحبة، وما يتفرع عنهما من الصفات الجميلة من الرحمة والعطف واللطف والحنان والرفق واللين والسماحة والبشاشة وحسن التعامل مع الآخرين وطيب الكلام، فإن المودة والحب هما السلسلة الذهبية التي تربط أواصر المجتمع، وتقوي تماسكه، إنه عندما يسود الجفاء والكره في المجتمع فإن نسبة كبيرة من الناس ستعاني من المتاعب والاختلال الوظيفي والعنف والقسوة، وستصبح هذه النسبة عبئاً على الآخرين، ومصدر إزعاج وقلق.
إن كل واحد منا يحمل في أعماق نفسه نوازع خير ونوازع شر، والمودة والمحبة تحفز نوازع الخير وتقويها وتبرزها، والجفاء والكره تفجر نوازع الشر وتقويها وتظهرها، إن ملء القلب بالحقد والغل والضغينة ليس الطريقة المثلى لتحقيق الانتصار، ودفع الضرر، ولكنه في الحقيقة طريقة لإيذاء النفس، وإيذاء الآخرين في نفس الوقت، وبالتالي يزيد من تعاسة كل المحيطين به، إن الهدوء والسكينة الداخلية، والسلام والأمان النفسي مطلب ملح وهدف منشود، لا يمكن أن نعثر عليها بين ركام عالم يزداد ضجيجاً وجنوناً، إلا حينما نعمر قلوبنا بالمحبة، والمودة، والرحمة، حينما نغدقها على أنفسنا، ونمنحها من حولنا، ونجعلها عنوان تعاملنا مع الآخرين.
جرب أن تكون هادئاً بشوشاً رفيقاً ليناً سمحاً منصتاً لمن معك: أمك، أبيك، زوجك، أخيك، أولادك، زملائك، أظهر لهم رضاك عنهم، ومشاعرك الإيجابية، تجاهم، أفض عليهم من عواطفك الدافئة مارس ذلك، وتمسك به، وتعايش معه إلى أقصى قدر من ممكن، وأنا ضامن لك أن تكون حياتك في غاية البهجة، والتميز، وتكون علاقاتك في قمة التألق، وسيكون لحياتك معنى آخر، وسترى فيها من الجمال والمتعة ما لم تكن تتوقعه، فقط كن ودوداً، ولا تكن حقوداً، كن محباً ولا تكن مبغضاً، كن مؤْثِراً ولا تكن أنانياً، كن إيجابياً ولا تكن سلبياً، كن متفائلاً ولا تكن متشائماً، كن متسامحاً ولا تكن متعنتاً، كن رفيقاً ولا تكن عنيفاً، كن ليناً ولا تكن قاسياً، بادر بفعل الخير واستمتع بذلك، واستمر عليه، ولا تنتظر المكافأة بالمثل، ليكن هذا طبعك وسجيتك مع كل أحد، لا تختص به شخصاً دون آخر، أو فئة دون أخرى، ولكن امنحه لجميع إخوانك المسلمين بلا مقابل، إلا من الله سبحانه وتعالى، ولو وجدت فيهم جوانب من القصور والمخالفة، إذ لا يسلم منها أحد.
وحينما تعمر المودة والمحبة حياتنا، وتعطرها بأريجها، فسننعم بآثارها المباركة، وثمارها اليانعة، فالمسلم الودود، باسم الثغر، طلق المحيا، يتقرب إلى ربه ببشاشته في وجه أخيه، كما قال صلى الله علي وسلم: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق).
المسلم الودود إذا أقبل على أهله، أو لقي أخاه في أي مكان، وأي ظرف، حياه بالسلام، مشعراً إياه بالأمان وصفاء الباطن ونقائه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على عمل إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)، المسلم الودود يتميز بطيب قوله، وعذوبة حديثه وحسن معشره، امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} وقوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة).
المسلم الودود لا يقابل السيئة بمثلها، ولا يرد على الوضاعة والحقارة بأختها، وإنما يدفع بالحسنى، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)، المسلم الودود لا يتعمد أذية الآخرين، ولا يكون أداة إفساد أو تدمير أو ترويع للآمنين، لأنه يعلم أن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، وإنما يأمر بالإصلاح، ويحب الصالحين والمصلحين، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
المسلم الودود يطهر لسانه من فاحش القول، ومرذول الكلام من غيبة أو نميمة أو بهتان أو سخرية أو استهزاء، لأنه يدرك أن ذلك من أعظم ما يوغر الصدور ويفرق الكلمة ويستنزف الطاقات ويهدر الجهود ويوقع في الشحناء بل ويورد النار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، المسلم الودود يحترم الآخرين ويقدرهم ويراعي مشاعرهم، وينزل الناس منازلهم، وخاصة ذوي العلم والسلطان والشارات والسن، وفي الحديث: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب أحد أحفاده، فرآه الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وماذا أصنع بك إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك).
وعلماء الاجتماع والنفس يقولون إن الأطفال الذين يتعرضون للإساءة من قبل أسرهم، يكونون أكثر عرضة لأن يكونوا آباء سيئين، وعلى النقيض من ذلك، فإن الأطفال الذين يأتون من أسر تسودها المودة والرحمة والمحبة يصبحون آباء جيدين، وكم من أطفال سقطوا في حبائل المخدرات والإجرام، أو وقعوا فريسة للأمراض النفسية، والأفكار المنحرفة، ووقعوا في سلوكيات مشينة بسبب عدم الإشباع العاطفي من أهاليهم، وعدم الشعور بالأمن والسلام الأسري في بيوت ذويهم، الزوجان في صخب ومشاكل لا تنتهي، كل واحد يركب رأسه ومنشغل بمتعه وأصحابه والضحية الأطفال، ومن ثم المجتمع، فلنعد على أنفسنا بالهدوء، وعلى بيوتنا بالسعادة، وعلى أهلينا وأولادنا بحسن الرعاية والتربية والتعليم، ولنمنحهم من أوقاتنا وعواطفنا ما يسد حاجتهم العاطفية والنفسية ويؤهلهم أن يحيوا حياة هانئة، ويتربوا بشكل سليم، ليكونوا عباداً لله صالحين، ومواطنين منتجين نافعين لمجتمعهم وبلدهم.
إن المحبة والمودة والرحمة هي نقطة الانطلاق إلى الحياة الحقيقية، والسعادة المنشودة، إنها الأنوار التي تبدد ظلام اليأس والإحباط والكآبة، وتزرع القوة والثقة والتفاؤل والأمل في النفس، وحين أهيب بك أخي المسلم أن تكون ودوداً لطيفاً بشوشاً، فلا يعني هذا أن تكون ضعيفاً، ولا يعني ذلك أن لا تفرق بين الصواب والخطأ، كما لا يعني أن تسمح للآخرين أن يستغلوك، إنما يعني أنه مهما حدث لك فعليك أن تظل إيجابياً منفتحاً على العالم، واثقاً هادئاً مطمئناً رزيناً، لا تتخذ رد فعل عدواني، حتى عندما تواجه بمثله لا ينبغي أن تتصرف بحماقة، أو تهور، أو تفقد أعصابك، أو تنفس عن غضبك في الآخرين، ولكن كن إيجابياً، وأفسح مكاناً للهدوء في حياتك، واغمر من حولك بعطفك ومشاعرك الدافئة، وكلماتك الجميلة، عامل الناس بحسن الخلق، والرفق، والأناة، وأظهر لهم مودتك وصدقك، وامنح نفسك بداية جديدة كل يوم، واعلم أن الحياة جميلة، وفيها جوانب من الخير كثيرة، رغم ما بها من ظلم وفساد وفي الناس صفات خير وخصال كريمة رغم ما قد يظهر فيهم من الجهل والسوء، لا تنشر البغضاء حولك، استبعد التحامل من حياتك عليك أو منك، والتزم السبيل الأسمى، والموقف الأعلى وإن كان أصعب تَغَاضَ عن الاختلاف، واجعل حياتك بسيطة تنعم بسلام، ولا تسقط في ورطة المؤاخذة للآخرين، فإنها لا تجلب خيراً، ولا تقر حقاً، ولا تزهق باطلاً، ولا تغيض عدواً، وإنما هي مرض لصاحبها، وتفتيت لكبده، وتشتيت لفكره، وإهدار لطاقاته وقدراته، وطمس لبهجته وضياء وجهه، والنفوس إذا أظلمت بالبغض والحقد جلبت لصاحبها الشقاء والتعاسة وأورثته اليأس والإحباط والشعور بالنقمة على الآخرين وعلى المجتمع بما قد يدفعه إلى الإضرار بهم وبالوطن ومصالحه ومقدراته ومنجزاته الحضارية بل والارتماء في أحضان أعداء الأمة تلبية لنداء داخلي بين ركام نفس محطمة لم تعد ترى النور أو الخير فأمكن التلاعب بها وتجنيدها لنشر الفساد والتدمير في المجتمع، ثم تذكر قول الله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
كم نحن بحاجة ماسة إلى أن نعيد النظر في أسلوب حياتنا وطرائق تفكيرنا وآليات تعاملاتنا اليومية مع أهلينا وأولادنا وأقاربنا وزملائنا بل وكل من نلتقي بهم في أي مكان وأي مناسبة.
وكم أتمنى أن يعطى هذا الموضوع حقه من الاهتمام والعناية الخطيب في مسجده والمدرس في مدرسته والكاتب في صحيفته وأن تعقد له الندوات وتقام له المحاضرات وتؤلف فيه الكتب فإن واقعنا اليوم مؤلمٌ وبحاجة إلى معالجة هادئة واعية تعين على الارتقاء بالعلاقات الإنسانية بين المسلمين.

( * ) الرياض


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved