Friday 25th June,200411593العددالجمعة 7 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "أفاق وأجنحة"

« الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «25» « الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «25»
الحسد ضيق في الصدر ومن مجامع الشر.. (2-2)

* الجزيرة - خاص:
فرق شاسع بين المنافسة في دروب الخير، والسعي لتحقيق رفعة الدنيا، وبين الحسد الذي يشتعل في صدور البعض، تدفعه أمنيات بزوال نعمة الله عن عبد من عباده، ويتطور إلى بغض وعداء للمحسود..
في هذه الحلقة (الثانية) نعرض لوسائل وقاية القلوب من الحسد، كما جاء بها الإسلام لاطفاء هذه النار التي قد تشتعل في صدور الحاسدين، وتمزق أواصر المجتمع المسلم، فما هي هذه الوسائل الدافعة للحسد؟
****
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
*****
في البداية يقول الشيخ عبدالله بن صالح آل الشيخ مدير الشؤون الدينية بوزارة الدفاع والطيران المكلف: ان القرآن الكريم شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه مرض من أمراض الشبهات والشهوات ففيه من البينات ما يبين الحق من الباطل، والقلب في حاجة إلى أن يتربى وينمو ويزيد حتى يكتمل ويصلح كما هي حاجة البدن، وصلاح القلوب يكون بأن يتطهر من أمراض القلوب، ومنها الحسد والذي هو تمني زوال النعمة عن المحسود وان لم يكن للحاسد مثلها، مع مراعاة الفرق بين الحسد والغبطة، فالغبطة تمني النعمة من غير حب زوالها عن المغبوط.
وقال ابن القيم: (الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان: كراهة للنعمة عليه مطلقاً فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه فيكون ذلك مرضاً في قلبه ويتلذذ بزوال النعمة عنه وان لم يحصل له نفع بزوالها لكن نفعه بزوال الألم الذي كان في نفسه.
والنوع الثاني ان يكره فضل ذلك الشخص عليه فيحب ان يكون مثله أو أفضل منه فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حسدا في الحديث المتفق عليه من حديث عبدالله بن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً وسلّطه على هلكته في الحق).. فإن قيل إذاً لم يسمّ حسداً وإنما أحب أن ينعم الله عليه قيل: مبدأ هذا الحب هو نظرة إلى انعامه على الغير وكراهته أن يفضل الله عليه ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، وقد يسمى المنافسة فيتنافس اثنان في الأمر المحبوب المطلوب كلاهما يطلب أن يأخذه، وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر).
ما خلا جسد من حسد
ويشير آل الشيخ إلى أن الحسد مرض من أمراض القلوب لا يخلص منه إلا القليل ولهذا قيل: ما خلا جسد من حسد. ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه.. قيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ فقال: ما أنساك اخوة يوسف لا أبالك ولكن اخفه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعتد به يداً ولساناً فمن وجد في نفسه حسداً لغيره فعليه ان يستعمل معه التقوى والصبر فيكبره ذلك في نفسه.
وكثيراً ما يقع الحسد بين المتشاركين في رئاسة أو مال وهو بين النساء أكثر، وقيل: أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص والكبر والحسد، فالحرص من آدم والكبر من إبليس والحسد من قابيل حين قتل هابيل، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (دب عليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء وهي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) فسماه النبي صلى الله عليه وسلم داء كما البخل داء، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله اخوانا ولا يحل لمسلم ان يهجر أخاه فوق ثلاث ليال... الحديث)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
والحسد المذموم كله ذكره الله تعالى في حق اليهود.. قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}، يودون أي يتمنون ارتدادكم عن الإسلام حسدا لما رأوه من النعم التي حصلت للمسلمين ولم تحصل لليهود، وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ...} الآيات، قال بعض المفسرين انها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سحروه، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم الله عليه بها ظالم معتد مستحق للعقوبة إلا ان يتوب، والمحسود مظلوم مأمور بالصبر والتقوى فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح.
وعن كيفية دفع شر الحاسد عن المحسود، يقول الشيخ عبدالله آل الشيخ: إن العلماء ذكروا أسباباً لدفع شر الحاسد، منها: التعوذ بالله من شره واللجوء والتحصن به، وتقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه فمن أتقى الله تولى الله حفظه، والصبر على عدوه وان لا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه فما نصر على الحاسد بمثل الصبر، والتوكل على الله وحده ومن يتوكل على الله فهو حسبه.. وأيضاً الصدق والإحسان ما أمكن فإن له تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، والإحسان إلى الحاسد إطفاء نار حسده فكلما زاد حسداً ازددت إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقة.
بوابة البغي والعدوان
أما د. محمد بن عبدالله الخضيري الأستاذ المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم فيقول: إن الحسد بوابة البغي والعدوان حيث إنه ناتج عن تمني زوال الخير عن الغير أو كراهية النعمة التي أنعم الله بها عليه ومن ثم يزداد ذلك غماً وهماً في القلب حتى يحتقن ويصير حقدا ثم قد يتجاوز صاحبه إلى العدوان والبغي والأذى.
ولما له من تأثير كبير فقد جاء ذمه في القرآن والتحذير منه كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وبيّن تعالى ان صفة الحسد متحققة في الأمة الغضبية (اليهود) حيث يحسدون الناس على الفضل والإنعام بل وحسدوا الرسل والأنبياء ولهذا آذوهم وقتلوهم قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} وهذه الصفات متأصلة في عامة أهل الكتاب قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} وثبت من قوله صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا) وجاء عن أبي داود بسند فيه فقال: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
وبحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد بعض الناس فإن كثير فضله كثر حساده وان قل قلوا وربما كان الحسد مذكراً بفضل المحسود ونقص الحاسد كما قال أبو تمام:


وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يُعرف طيب عرف العود

ويضيف الشيخ الخضيري: ان الحسد يضر الحاسد ذاته، حيث يتحسر ويقتله الهم والغم ولهذا قيل: ما أعدل الحسد لا يزال بصاحبه حتى يقتله.
وقال عبدالله بن المعتز: (الحاسد يغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه، طالب ما لا يجده) وأضراره على المجتمع والأفراد مشهورة معلومة من التباغض والتنافر ويجر إلى الغيبة والنميمة والسب وانتقاص المحسود بمناسبة أو بغيرها وكم فرّق بين أسر وضرب من بيوت وشتت بعد اجتماع.
كيف نتخلص من الحسد؟
ولكي نتخلص من الحسد علينا معرفة أسبابه والطرائق الموصلة إليه، ومنها: العداوة والبغضاء فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب وخالفه في أمر أبغضه قلبه وإذا أبغضه كره وأبغض ما يتمتع به من نعم وفضائل ومزايا، فاجتناب مورثات ومسببات العداوة هو قطع لجذور الحسد وأصوله، والكبر والعجب، فإذا أعجب إنسان بنفسه تكبّر على غيره ومن تكبّر على أحد كره أن يفضله أو يسبقه إلى خير ومكرمة، ومن أسباب الحسد كذلك حب الرياسة وطغيان الجاه، وخبث النفس وبخلها.
وهناك اسباب عامة تولد الحسد كالفراغ والبطالة والفقر واتهام المقاصد وكثرة الفضول والرغبة في الاطلاع على احوال الغير ومعرفة ما يتمتع به فلان وما أحرزه فلان وما يملكه علان وبعد معرفة هذه الأحوال تثور في نفسه المقارنات والمحاسبات وهكذا حتى يصبح حاسداً وهو لا يشعر. والحسد يقع غالباً بين أقوام يوجد بينهم قاسم مشترك من التشابه وقدر معتبر من التنافس لهذا يقع بين الأقران والأمثال والاخوة والضرات والجيران وأصحاب المهنة الواحدة.. ذلك لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها التناقض فيثور التنافر والتباغض.
وبعد معرفة الأسباب يطالب د. الخضيري المسلم بمحاولة المغالبة والمعاجلة لهذا الداء الوبيل، وذلك بعدة وسائل منها: قوة التدين بالإكثار من الأعمال الصالحة، والإيمان بالقضاء والقدر والاعتقاد التام ان الله تعالى قسم بين الخلائق الأرزاق والصفات والمزايا كما قسم بينهم الأعمار والآجال ومعرفة ان الحسد فيه اعتراض على قسمة الله تعالى ومنازعة للرب تعالى في خصائص الربوبية ولهذا لما اعترض كفار قريش على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم قال الله تعالى رادا عليهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ}، يضاف لذلك العقل الذي يستقبح به من نتائج العقل ما لا يرضيه، ثم الدعاء والتضرع، والعدل والإحسان وعدم الاساءة للحاسد، كذلك مداراة الحاسد والتودد إليه لعل الله أن يهديه ويكف شره.
أسباب أخرى
أما د. محمد بن سعد المقرن الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض فيضيف: للحسد أسباب أخرى منها: ضعف الديانة، وقلة الإيمان، فالمؤمن يعلم أن الارزاق من الأموال، والأولاد، والجاه، والصحة، إنما هي بيد الله تعالى، ويعلم ان الله سبحانه قدر ذلك على العبد وهو في بطن أمه، أما ضعيف الدين قليل الإيمان فإنما ينظر إلى نعم الله تعالى على عباده وكأنها من فعل أنفسهم، فيدفعه الحسد إلى تمني زوال تلك النعم، يضاف لذلك حب التميز والانفراد بالشيء عن الغير، وكراهة المساواة مع الغير، ومنها أيضا العداوة، والتكبر، والعجب، وحب الرياسة، إضافة إلى خبث النفس وبعدها عن الله تعالى، وجماع ذلك كله حب الدنيا والركون إليها، وتفضيلها على الآخرة.
بيئة الحسد
ويرى د. المقرن انه من الملاحظ ان الحسد يكون أكثر ما يكون بين الأقران، والأمثال، والاخوة والأقارب، واعجب من ذلك ان الحسد إنما يكون في أمور الدنيا ومتاعها الزائف، ولذا تجد الناس يحسد بعضهم بعضاً: إما على كثرة مال أو اولاد، أو منصب، أو مركب.. وأما أمور الآخرة فلا تجد من يحسد على قيام ليل أو صيام نهار، أو طلب علم، أو رعاية أيتام..
أما آثار الحسد السيئة على الفرد والمجتمع فيمكن اجمالها في: أن الحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو ممقوت من الله تعالى، ممقوت من عباده، يقول بعض السلف (ما رأيت مثل الحاسد نَفَس دائم، وحزن لازم، وغيرة لا تنفذ) بل هو والله يوجب طول السهر، وقلة الغذاء، ورداءة اللون، وفساد المزاج، ودوام الكمد ولذلك قيل:


أصبر على حسد الحسود
فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله

وأعظم من هذا ان الحاسد متسخط لقضاء الله تعالى وقدره، فهو لحسده كأنه يعترض على قضاء الله تعالى، إذ يرى ان فلاناً من الناس ليس بأهل للغنى أو للمنصب، وإنما ذلك كله بيد الله تعالى وقد قيل:


الا قل لمن ظل لي حاسداً
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه
إذا أنت لم ترض لي ما وهب

وهو من الخسارة في الدنيا والآخرة، أما الخسارة في الدنيا ففي إهلاك الحاسد نفسه بنفسه، ومقت الآخرين له، فهو طريح الهم، طويل الغم، قتيل الوحدة، منشغل بما يضره عما ينفعه.
وأما خسارته في الآخرة فبصرفه جهده إلى الدنيا وتحصيلها، معرضاً عن الآخرة ونعيمها فهو سائر على درب إمامه إبليس المبغوض المطرود، ويكفي أن الله تعالى أنزل في كتابه الكريم سورة تتلى إلى يوم القيامة أمر فيها بالتعوذ من الحاسد، مشيراً إلى ان علاج الحسد يبدأ بأن يوقن الإنسان أن الأرزاق والنعم بيد الله تعالى، وان العبد إنما هو فاعل للسبب، وأما المنعم المتفضل فهو الله تعالى، وتذكر ان الله سبحانه وتعالى قد ينعم على الإنسان وهو ليس من أهل الصلاح ابتلاء منه سبحانه، واستدراجا، أو لحِكَم يعلمها جل جلاله، واستحضار قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وما تحويه من دروس، ثم التفكير في نعم الله تعالى عليه والنظر إلى من هو دونه فإن ذلك أحرى ان لا تُزدرى نعم الله تعالى.
أمراض النفوس
من جانبها تقول الأستاذة منى فارح المشرفة المركزية بالإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات بالرياض: الحسد هو تمني زوال النعمة عن المحسود سواء كانت نعمة دين أو دنيا، وهو بخلاف الغبطة فإنها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط، والغبطة إذا كانت في أمور الدنيا فهي مباحة، وإذا كانت في طاعة الله فهي مستحبة، والحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فالحاسد يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله، ويحب زوالها، والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته.. وقد اُبتلي يوسف - عليه السلام - بحسد اخوته له، حيث قالوا: {...لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، فحسدوه على تفضيل الأب له، ثم ظلموه بتكلمهم في قتله والقائه في الجب، وبيعه رقيقاً، والحسد يبقى إلى لحظة نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان قبيل قيام الساعة.
وتضيف الأستاذة منى فارح: والحسد مرض من أمراض النفوس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا القليل من الناس، ولهذا قيل: (ما خلا جسد من حسد)، ولكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه، والحسد ذميم قبيح، حيث إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شر الحاسد، كما أمر بالاستعاذة من شر الشيطان، قال الله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}، وفي الحسد إضرار بالبدن وإفساد للدين، وفيه تعدٍ وأذى على المسلم نهى الله ورسوله عنه، والحسد حرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وافساد ذات البين وايذاء الخلق، قال بعض السلف: (الحسد أول ذنب عُصي الله به في السماء، يعني حسد إبليس لآدم) وأول ذنب عُصي الله به في الأرض، يعني حسد ابن آدم لاخيه حتى قتله).
ومن الأسباب التي تؤدي إلى الاتصاف بالحسد: العداوة والبغضاء: وهذا السبب من الحاسد.. وهو من أشد أسباب الحسد، فالحسد نتيجة من نتائج الحقد وثمرة من ثمراته المترتبة عليه، فمن يحقد على إنسان يتمنى زوال نعمته، ويغتابه، ويعتدي على عرضه ويغتم بنعمة أصابها، ويسر ان نزلت به، وهذا من فعل المنافقين والعياذ بالله.
ومن أسبابه أيضاً التعزز والترفع والتعجب: وهذا السبب أيضاً من الحاسد، فإذا أصاب أحد زملائه ولاية أو مالاً خاف ان يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره وافتخاره عليه، ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قالوا: (كيف يتقدم علينا غلام يتيم فنطأطئ رؤوسنا له، فقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، يضاف لذلك الكبر، وهذا السبب من المحسود، وهو ان يكون في طبعه ان يتكبر على الحاسد ويستحقره ويستصغره، ويستخدمه فإذا نال ولاية خاف ان يحتمل تكبره.. هذا بخلاف حب الدنيا: فمنشأ التزاحم والتحاسد حب الدنيا، وهي التي تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها.
آثار الحسد وعلاجه
وحول آثار الحسد وأضراره على الحاسد والمجتمع، تقول الأستاذة منى فارح: للحسد آثار ضارة على كل من الفرد والمجتمع، يمكن إيجازها فيما يلي: انتفاء الإيمان الكامل: قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)، ويفهم من هذا الحديث ان الإيمان الصادق والكامل لا يجتمع مع الحسد الذي يعترض على فعل الله وحكمته، واسخاط الله وجني الأوزار: ويسخط الله في معارضته له، ويجني الأوزار في مخالفته، إذ ليس يرى قضاء الله عدلاً، ولا من الناس لنعمة أهلاً، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
وللحسد آثار ضارة عديدة على المجتمع، إذ ينشر العداوة بين الأفراد، وفرقة للجماعات في المجتمع مما يؤثر على انخفاض إنتاجيتهم في شتى المجالات، الأمر الذي ينعكس بدوره على تطور المجتمع وتقدمه ورفع الخير منه، والشاهد على ذلك ما يحدث لبعض الدول في عصرنا الحاضر من تفكك وحروب داخلية بسبب تفشي البغضاء بين شعوبها، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا) رواه الطبراني، والمعنى انهم إذا تحاسدوا ارتفع الخير منهم، وكيف لا يرتفع وكل منهم يتمنى أن يزول الخير عن صاحبه.. هذا بالإضافة الى مقت الناس للحاسد وعداوتهم له، حتى لا يجد فيهم محباً ولا يرى فيهم ولياً فيصير بالعداوة مأثوراً وبالمقت مزجوراً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من يبغض الناس ويبغضونه)، هذا فضلا عن انخفاض منزلة الحاسد لانحراف الناس عنه ونفورهم منه.
وعلاج الحاسد في نفس الحاسد، فيمكن للحاسد إزالة ما في نفسه من حسد بتقوى الله، والصبر والعلم بأن الحسد ضرر عليه في الدين والدنيا، مع قيامه بالثناء على المحسود وبره وإفشاء السلام عليه والقناعة بعلماء الله، وقراءة القرآن والدعاء والصدقة وتذكر الحساب والعقاب.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved