عندما سقط النظام العراقي بتلك السهولة الكارتونية، فهم الكثيرون أن القوة والصلابة لا تلتقيان مع الواقع ولا مع الراهن حين يكون أكثر تناقضاً، وأكثر هشاشة وانكساراً كما هو عليه الوضع الراهن الحالي، فسقوط بغداد بتلك الطريقة المسرحية التراجيدية المبكية غيّر الكثير من الممارسات الدولية إزاء القضايا المحورية في العالم، مثلما غيّر الرؤية الثقافية والسياسية أيضا التي فتحت عينيها على تلك الصورة والمشاهد الأشد رعباً، بان احتلال شعب متعب ومنهك القوى، لهو أبشع أنواع العقاب غير المحتمل، حتى لو كان الشعب العراقي يريد القضاء على نظامه والانتهاء من جبروته الظالم، ولكنه كان يرفض ان يكون (فدية) لأي سبب كان، أو لأية أيديولوجية مهما كان مكانها أو اسمها أو مصدرها.. نعتقد انها واحدة من المفارقات المثيرة للسخرية والرهيبة في آن، التي غيّرت أيضاً من ثقافة العقيد الليبي معمر القذافي، الذي كان يراهن قبل فترة على (قوة وصلابة) النظام العراقي، مثلما كان يراهن على (ثورة الأضداد) التي كان يتكلم بها فقط لينفي عن نفسه صفة الجبن التي جعلت منه (زعيماً) على شعب مسكين لا حول له ولا قوة، ومنبوذاً دولياً باسم تهمة (الإرهاب) التي ظلت تطارده بفضل نظامه! لهذا كانت صدمة العراق كبيرة جداً على القذافي، ليس لأن صدام حسين انتهى، في حفرة اصطاده فيها التاريخ للمرة الأخيرة، بل لأن انتهاء (أيديولوجية قوى الأوراق) قد فتحت الباب لكل الاحتمالات، ولأن القائد الليبي واحد من تلك الأوراق التي صارت مرشحة للسقوط!
ما يهمنا اليوم بالخصوص هو تلك الكارزماتية المرضية التي يتعامل بها الزعيم الليبي مع الآخرين، فهو الذي يعتبر نفسه (قائد زمانه) وهو الذي يعرف كل شيء ويعلم بكل شيء.. وهو الذي يستطيع عمل كل شيء، بما في ذلك (حمل الحرب إلى الآخرين) وكان المقصود قبل عشرين عاماً الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً! لكن الدور انقلب، وصارت اللعبة الخطابية للقذافي مختلفة تماماً.. مختلة جداً، فلا أحد كان ليصدق أن يقول معمر القذافي (السيد بوش) للحديث عن الرئيس الأمريكي.. ففي مقابلة تلفزيونية قصيرة ومثيرة أجرتها معه قناة سي ان بي سي الأمريكية، تكلم القذافي عن أمريكا (الجديدة!) وعن (يده البيضاء) التي يصافح بها الأمريكيين الأحرار !! مثلما تكلم عن (اسراطين) التي أرادها الزعيم العظيم ان تكون اختصاراً لأزمة الشرق الأوسط عبر ضم إسرائيل للجامعة العربية كعضو كامل الحقوق! فكيف يمكننا إذاً التعليق على المفارقات التي صارت تصدر عن العقيد الليبي معمر القذافي؟ الفرنسيون، والأوروبيون عموما يعلمون اليوم بالذات ان هلوسة القذافي بلغت درجة خطيرة من الأذى للآخرين، فهو يريد ان يبقى في الحكم إلى الأبد، ولأنه في الأخير لا يختلف عن الرئيس المخلوع صدام حسين في محاولته النيْل من جيرانه ومن زعماء الدول العربية التي يتهمها القذافي بانها (أنظمة فاسدة)! هو الذي لم يغيِّر في سياسته القمعية الداخلية منذ وصوله إلى الحكم، وهو الذي يخصص ملايين الدولارات في عمليات (التصفيات السياسية) المقصود بها عادة خلط الأوراق داخل النظام العربي ككل، أو ببساطة داخل ما يُسمى عربياً بالجامعة العربية.. ليس هذا فقط، بل كانت قضية (لوكربي) من القضايا التي عرّت وبشكل مباشر النظام الليبي، والحال ان الإعلان رسمياً بان نظام معمر القذافي سوف يدفع ما يقارب من ثلاثة مليارات دولار كتعويض لأسر ضحايا طائرة لوكربي المدنية التي أسقطتها مخابراته.. يعني ببساطة الاعتراف الذي في الحقيقة لم يفاجئ أحداً، ربما لأن الجميع كان يعرف تورط القذافي في هذه القضية، ولكن الذي كان يثير الكثير من الأسئلة هو لماذا جاء الاعتراف الليبي رسمياً الآن؟ الجواب هو أن ليبيا موجودة في دائرة الضوء، والنظام الليبي الأكثر شمولية لا يمثل خطراً على (الإمبريالية الدولية!) كما يزعم القذافي، بل لأنه نظام بدأ يصاب بالهستيريا السياسية المطلقة، إلى درجة صار فيها يطلق النار على الجميع بلا استثناء، بيد ان الرواية الجديدة صارت تعني ان القذافي يريد ان يستعيد ثقة (الإمبرياليين القدامى!) لأجل المحافظة على زعامته ولأجل ألا يكون مصيره كمصير الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين !
لقد عمد النظام الليبي إلى تصفية الكثير من الشركات الاستثمارية العربية داخل التراب الليبي، كما عمد إلى طرد أكثر من 1200 فلسطيني وأردني ومصري من ليبيا من دون ان يعطيهم حقوقهم المدنية كعمّال كاملي الحقوق بموجب عقود شرعية.. فعل ذلك في نفس الوقت الذي ظل يتكلم فيه عن (الثورة الإنسانية) وعن (الإنسانية الحرة)! بينما في ليبيا ظل الإحساس العام بالتعب يتزايد في ظروف اجتماعية صعبة وسياسية أصعب.
القذافي الذي أراد أن يلمّع صورته فجأة في أعين الأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين فشل في النهاية لأنه (ممنوع من الصرف) سياسياً، ولأنه متورط حتى النخاع فيما يُوصف دولياً بالخط الأحمر والذي يعني ببساطة الشخصيات الأكثر قمعاً في العالم والذي وصل قمعه إلى درجة محاولة إثارة الفوضى داخل دول عربية بعينها باسم (التحرر الثوري) الذي يُمارس العقيد نقيضه حتى الثمالة! يبقى أن نقول إن ما ينتظر النظام الليبي لن يكون هيناً في ظروف يلعب فيها القذافي بالحبلين، فكثرة النط على الحبال يكسر الرقبة، وهذا ما سيشهده العالم بأم عينيه بلا شك، بطريقة الحفرة الشهيرة التي وجد صدام حسين بداخلها !!!
(*) عن (لومانيتي) الفرنسية
ترجمة ياسمينة صالح |