Friday 25th June,200411593العددالجمعة 7 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

قصة قصيرة قصة قصيرة
سذاجة الشوارع
محمود عبيدالله

بقيت الشوارع تغص بالناس، منهم إيقاعه سريع كقطار، ومنهم بطيء الحركة وكأنه ذاهب نحو هاويته، يشعر أن عمره يتدهور أمامه، والحزن يحصده كمنجل، هذا ما أحس به الأستاذ أبو السعيد في صباح ذلك اليوم، كان يندس بين جموع المارة، يتجه صوب وجهة ما، ما يلبث أن يغيرها أو يضيعها وسط سيل لا نهاية له من الناس، عمان هكذا هي، اتسع فيها كل شيء إلا شوارعها، ويبقى السيل يجره بفظاظة, خُيل إليه أن هذه الجموع هاربة من شيء ما، لا يعرفه، ربما أن يعض اليد التي تلامس جسده الصغير، ويدفعها بأقصى قوة - هذه أمنية بالنسبة له - كثيراً ما تقفز إلى ذهنه، السيل لم يفتأ عارماً، يتزحلق فيه الأستاذ أبو السعيد، وتحملق عيناه أحياناً في أشياء تبدو غريبة عنه، خطر له في هذا الزحام أن يستعرض شريط حياته فيض لحظة. قاطعه سعاله الجاف، وأخرج منديله الصغير بصعوبة بالغة، يفلح في تنظيف فمه الأدرد، لكنه يفشل في إعادته، دسه باتجاه الجيب ظاناً أنه ظفر بها، لكن اللكزة التي كادت أن تودي به، جعلته يقلل من أهمية ذلك المنديل الصغير، تذكر منذ متى لوثته هذه الجموع الغاضبة، أمنية الانتصار على هذه الجموع تصبح صعبة المنال الآن.. عندما يعود إلى غرفته الصغيرة المعلقة في الطابق الرابع سرعان ما ينزع ملابسه التي لامسها الهاربون، ليفرج عن جسد أوسعه الزمان نحولاً، فالبطن المقعرة أجبرت عظام الظهر إلى الانحاء للأمام، كم يعذبه هذا القوس اللعين، يغسل ملابسه ويعطرها، ظاناً أن رائحة أولئك الآدميين قد ذهبت.
ثلاثون عاماً قضاها معلماً في إحدى المدارس الابتدائية، وسط المدينة، لم يظفر ببيت واسع كما كان يحلم، ولم يستطع أن يلم شتاته مع امرأة تنجب له كائنات نافعة، تعطف عليه في مثل هذه السن. حتى قدرته على الابتسام لم تعد تطاوعه، إذْ كثيراً ما يفتح فمه على قليل من الأسنان المتخلخلة، حين يتحرر من الزحام يقف أحياناً قبالة زجاج المحال التجارية وينشأ يراقب هيئته الصغيرة، كم تعذبه هذه التجاعيد، مط شفتيه فجأة يحاول أن يظفر بألق ما، بدا له منظر وجهه مشوهاً، ثم سار مطاطئ الرأس وفي داخله رغبة في التبعثر لا تحتمل.
أحياناً يشعر بغيظ تجاه نفسه، يشعر أنه قوي مع نفسه فقط، الشيخوخة كأس دوار على الجميع، هكذا أكد له الطبيب الملعون، (أنا من سيحطم ذلك الكأس)، قال في نفسه، لاحظ أن الشمس قبل سبعين عاماً هي ذاتها تطلع اليوم بحجة إضاءة الكون، تتورد أشعتها صباحاً وحين تتوغل في كبد السماء تصبح أكثر قسوة، وعندما يشعر أن قسوتها لا يمكن احتمالها، يتواري بعيداً تحت ظلال رسمتها بعض العمارات الشاهقة في طرف المدينة، منذ متى داهمته الشيخوخة، ذلك الانحناء الذليل كم يعذبه، إذ يقرأ في عيون الناظرين إليه عطفاً لدناً، إنه العطف الموجع، هكذا يصفه الأستاذ أبو السعيد، تذكر قامته الرشيقة قبل ثلاثين عاماً وهي تناطح السبورة السوداء، فتملأها كلاماً أبيض، تذكر تلاميذه النجباء، والكسالى الذين كان يؤنبهم حين لا يكتبون واجبهم، تذكر كيف عندما يعاقبهم ونادراً ما يفعل، كيف كانوا إذا ما رأوه في السوق، يخرجون أيدهم من جيوبهم ويرسمون له في الهواء حركات مضحكة.
عين رآآآآء فاآآآء
عرف
حاء صاآآآد داآآآل حصد
يشعر أن جلبة التلاميذ وكركراتهم تلاحقه حتى اللحظة. وفي إحدى الليالي قام من نومه مذعوراً إثر حلم يذكره بالذهاب مبكراً إلى المدرسة، تذكر منذ متى قرأ اسمه من ثلاثة مقاطع (عمر سعيد مصطفى) وعندما حدّق في فحوى الخبر تأكد ألا عودة للمدرسة بعد اليوم، شعر عندها أن عمره نفد، ولم يعد قادراً على فعل شيء، شعر بتيار من العجز يمور داخل أشلائه الباردة، الله الله يا أبا السعيد، هم أسموك طوال هذه السنين باسم والدك لا ولدك، بعد هذا العمر يجب أن تلزم فراشك وتتبع قائمة الحمية، وتكثر من تناول الأقراص المهدئة، خرج أبو السعيد إلى الشوارع صباحاً جذلاً على غير عادته، شم بأنفه المحدودب رطوبة الهواء، كان يسوق أمامه حفنة من النساء لا يدري إلى أين، تذكر أن النساء لم يعدن يلوين أعناقهن نحوه وإن فعلن فبسرعة يشحن عنه، (اللعنة يا أبا السعيد ما هذا الخواء؟ تشجع يا رجل، بادرهن أنت، وغازل عيونهن).
بالأمس قبل أن يحلق ذقنه المكتظة بإبر الشيب، حدق في المرآة وتأمل وجهه المجعد بمرارة، هذه المرارة أصبحت إحدى مقتنيات غرفته، تذكر كيف احتال عليه أخوه الأصغر والتهم التركة التي تركها والدهما، قال له بكل وقاحة: (أنا عندي سبعة عيال، وفقير جداً كما ترى، أما أنت فليس لديك ما ينعق وموظف أيضاً)، تنازل عن التركة بعينين جاحظتين، وكان يشم لحظتها عبقاً يتعلق بالماضي وكان هذا آخر عهده بتلك الرائحة، وذلك العبق القادم من شجرة العائلة الضائعة، قال لنفسه: (هو له سبعة عيال وزوجة جميلة أيضاً، أما أنا فليس لدي شيء، إذن قد لا استحق شيئاً)، (إن الشوارع يا أبا السعيد غير قابلة لنواميس الزمن كما أنت، تهرم أنت، أما هي فلا)، شعر حيال الشوارع بامتنان ما فهي التي تبيح له قضاء ساعات ضجره بالتمتع بمراقبة الأشياء الثابتة والمتحركة، الصغيرة والكبيرة، المسرعة والمتئدة، الكئيبة والفرحة، الجميلة والقبيحة أيضاً، (الشيخوخة شبح مرعب)، هكذا همس إلى نفسه، عبثاً يحاول التودد إلى نفسه، يحول السبعين إلى وسام له سبعة نجوم لامعة، (كذبة صغيرة وملساء، اسمها وسام، الوسام الحقيقي أن أعود في الثلاثين أشق عنق الأرض بقدمي مؤتزراً بالعضلات كنمر، أن تحلم كيف تهزم هذا الشبح المرعب تصبح لعبة غير مسلية غالباً، فجعت بك أيها العمر لأنني لم أذق طعمك بعد.
ولأول مرة يقرر أبو السعيد أن يأكل دون الرجوع إلى قائمة الحمية ويزور المشرب لحظتها أحس أنه سيد المدينة، صادفه شبابه الكالح، وكأنه على موعد معه، هذا الإحساس غالباً ما يفضي به للنوم، وفي النوم وحده يتلذذ بمقاومة الحزن وبعض الذكريات، في آخر إغفاءة يضبط شخيره المتقطع، ويعب نفساً عميقاً بأنفه، كأنه يبحث عن رائحة ما يحبها، بعدها تبدأ خيوط الصباح بالانتشار، وخيوط رأسه تتشابك معها، ومع خيوط التسكع يمشي، يجوب الشوارع راجلاً ويقف مستغرباً أمام تلك القوة ومصدرها، أحياناً يحتل باصاً بسبب التعب، في الباص يفاجئه بعض الشباب بالسلام عليه بحرارة، (اللعنة، إنهم تلاميذي إذن، من أين لهم هذه الحقائب الدبلوماسية، وربطات الأعناق المزركشة؟ اللعنة إنهم كبروا وأصبح لديهم أنوف تقف وسط وجوههم بمنعة)، تذكر قامته الممشوقة وشاربيه الأسودين، بنفاد صبر، هذه الفراسة في ضبط الجراح وهي نيئة من أين حصل عليها، الرجل السبعيني في لحظة ما، لم ينتبه له أحد وهو يزعق في الشوارع ويلوح لأناس لا وجود لهم، الرجل السبعيني صرخ بأعلى الصوت بأنه يود أن يولد ويعيش مرة أخرى، الرجل السبعيني لم يطق الانتظار أكثر، وُجدَ في هذا الصباح متكوراً على رصيف المدينة وفي عينيه جحوظ ساخط، بينما واصلت المدينة ضجيجها الاعتيادي بشهية مفرطة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved