إن الأحداث التي مرت بها بلادنا العزيزة خلال الأشهر الماضية تفرض على كل كاتب أنى كان موقعه ومجاله ان يعطيها حقها من الأهمية في الدراسة والتحليل والمعالجة والاقتراح.
كنت قد بدأت سلسلة مقالات عن الإدارة التربوية وأجدني الآن مضطراً لقطعها والحديث عن هذه القضية لأهميتها. فرجل التربية ليس بمعزل عما يدور حوله من أحداث خاصة عندما يكون الحدث هاماً وبالغاً وبهذه الدرجة من التأثير.
تناول بعضهم هذه الأحداث المشينة من زوايا مختلفة كل حسب ثقافته ورؤيته وقناعاته، وحاول بعضهم إسقاط الأسباب على جهات أو أساليب وإجراءات ممارسة في الميدان الاجتماعي، ولم تكن التربية بمعزل عن هذا الخوض من الاتهامات، حيث ذهب بعضهم إلى الكيل بجملة من التهم على المناهج التربوية والتعليمية وأنها السبب في هذا المنزلق، ودافع آخرون عن ذلك بعاطفة مغلقة وانفعال حاد.
مع هذا الجدل تذكرت مقالاً قرأته قبل عقدين من الزمن بعنوان (ولئن سألوك عن مجاعات وفيضانات.. و.. تلوث. فقل إنما هي التربية) للدكتور علي التويجري في مجلة رسالة الخليج، بدأ المقال بعبارة (بدون أية أحاجي أو ألغاز. من ذاك الذي يستطيع اليوم ان يكشف أو يتصور وبكل وضوح ان الفيضانات التي ترغي وتزبد في سهول الآندوس في باكستان سببها التربية، وأنها بكل كوارثها تحل بالإنسان والحيوان والنبات، وبآثارها المباشرة وغير المباشرة سببها التربية).
وامتداداً لهذا العنوان الجميل والمثير والمعبر نستعيره مرة أخرى لنقول.. ولئن سألوك عن أحداث وتفجيرات ومشكلات أمنية.. فقل إنما هي التربية!!
ولكن مهلاً.. هل يعني ذلك ان التهمة موجهة مباشرة لمناهجنا الدراسية ولقاعات الفصول ولنبرة المعلمين وحدهم فقط كما يثيره بعضهم؟
بذا يكون التشخيص ناقصاً ومنبثقاً عن ضعف في الدلالة وبعد عن الحكمة حول مفهوم التربية ومنطلقاتها، فالتربية كما يقول الدكتور عبد الدائم (هي أكبر من ان تترك للتربويين وحدهم).
هنا فقط يكون التشخيص الصحيح، وينحصر الرد الواقعي وتستل الحلول المثلى والصائبة، من خلال تحديد مفهوم التربية ومكوناتها والمؤسسات المعنية ببنائها، فنحن نؤمن في الأصل - كما يقول معالي الدكتور محمد الرشيد في مقالة له بأن (الحضارات تنشأ وتندثر، وتتسع حدود الأمم وتنحسر، ووراء ذلك كله مناهج التربية والأهداف التربوية - عموماً - التي إما أن تؤدي إلى توالد السمات الحضارية أو التطاحن والتناحر في ضوء تلك الأهداف والمناهج).
فالتربية باختصار وبدون تقعر وتشعب تعني (إعداد الفرد للحياة)،.. فما هي الجهات والمؤسسات المعنية بإعداد الفرد لذلك الغرض؟
إنها المؤسسات والمواقع الاجتماعية والمراكز الثقافية والرياضية، والمنظمات والهيئات الدينية والإعلامية، وكافة المؤسسات المعنية بالتعامل مع الفرد والمجتمع.
ولو أخذنا نشاط وجهود كل موقع منها على حدة لاستطعنا تحديد مواطن الخلل لدينا، ولأصبح ذلك جلياً متكاملاً لكل باحث عن الحقيقة دون التخبط والارتجال وتحميل المسؤولية على جهة محددة.
إن المنزل - على سبيل المثال - يعد من أبرز المؤسسات والمواقع الاجتماعية الذي بدأ يفقد أو يتنازل عن بعض مهامه بدافع المؤثر الخارجي أو الإهمال، بل إنه برغم ارتفاع المستوى الثقافي والحضاري للأسرة في وقتنا الراهن نرصد جملة من الملاحظات والممارسات الخاطئة التي تخرج من بين أركان المنزل وكأن الأمر يوحي بانتهاء غيرة الأسرة وحرصها على أبنائها، فقد شرعت أبوابه برحابة ودون استئذان أو تردد لاستقبال رياح التغيير الحادة من استقبال لقنوات إعلامية متعددة المشارب والأهداف والأساليب، وشبكات ومواقع تثقيفية وإخبارية غاب عنها أسلوب الرقيب، ورب الأسرة يمدها بالزيادة والإنفاق دون ان يكلف نفسه عناء الاختيار أو المتابعة لمعروضاتها ولو لفترات متباعدة ليعرف أين يعيش ابنه ومن يصاحب عبر تلك الصفحات الإلكترونية المتجددة التي تستهدف القيم والمعتقدات، وتنتشل الناشئ من بيئته وتملي عليه ثقافة غريبة متجددة الأطوار.
وما الثقافة والرياضة وما يمثلها من مراكز وأندية وجمعيات ومناسبات بمعفاة من المسؤولية فهي بحاجة إلى مراجعة لأهدافها وخططها وبرامجها يما يثري ويشبع حاجات الشباب وتطلعاتهم، ويقوي لديهم الحصانة والانتماء، فالكرة قد أصبحت هدفاً في حد ذاتها يرسم لها الانتماء بدل أن تكون معززة لقوة الحس الوطني، أما الأنشطة الثقافية فهي ذات لون باهت ممقوت تستل مواضيعها من تيار الرتابة والغموض وتندفع خلف قضايا شكلية لا تهم المواطنة وتأصيلها وعوامل تأهيلها، خاصة في المجالات والمناسبات الموجهة لكافة شرائح المجتمع وبالذات فئة الشباب، وقل مثل ذلك عن المؤسسات الدينية والإعلامية، فهي ليست بأحسن حالاً في التوجه والمسار.
إن الإعلام العربي عبر وسائله - وخاصة المرئي منها - يصارع وبكل جهد لمحاولة البحث عن مكانة ومسمى بين المواقع والعروض العالية بحيث يحقق الأهداف المرسومة له، لكنه يضعف أمام قوة وإمكانات الإعلام الأجنبي الذي تدرب على صياغة الأهداف المتجددة حسب الظرف وتغطية المناسبة وأساليب تحقق ذلك بكل كفاءة، فالمادة الإعلامية لم تكن مجرد الخبر المنقول والصورة الملتقطة بل تحولت لقنبلة متفجرة تستهدف جملة من المواقع الحساسة في حياة الشعوب والمجتمعات المستهدفة، وتحررت من الشرف والمصداقية، واتجهت صوب جملة من المواقع الحساسة في المجتمعات تستهدف تدميرها وتفجير مكوناتها بصورة تشابه تفجير مبنى التجارة العالمية بحيث لا تبقي لها أثراً، من هنا فنحن أمام تحد خطير لا يعالجه سوى جهود فاعلة وجريئة منطلقها الشفافية في التقييم، لينتهي الأمر برسم استراتيجية جديدة للعمل الإعلامي يتجاوز الإطار السائد المألوف إلى لغة جديدة وأسلوب نافذ يقوم على التحليل المتكئ على الاستقلالية وتعدد الرؤى وتغليب المصلحة الوطنية والاتكاء على المؤشرات الإحصائية واستثمار وتوظيف الأحداث التي تمثل خير شاهد وناطق بالحقائق ونتائج الأمور. وللحديث بقية..
|