في هذه الأيام التي تتجسد فيها التنازلات والتراجعات عن المبادىء والثوابت بالممارسة الفعلية على الأرض، عبر المبادرات والمؤتمرات والتصريحات والخطب التي تلقى هنا وهناك بالدعوة للاستسلام والتسويات وانصاف الحلول والتنازل عن البقية الباقية من الثوابت والأرض الفلسطينية، من قادة ومسؤولين ومخاتير ووجهاء وأشباه مثقفين شاءت لهم الظروف - بل أرادت لهم الإدارة الأمريكية وسلطات العدو الإسرائيلي - أن يكونوا في مواقع مؤثرة في هذه الحالة المصيرية بالذات!!
في هذه الأيام التي تفتح فيها الجسور أمام الأعداء لاقتحام الأوطان وتركيز أعلامهم السياسية، والعسكرية والاقتصادية والثقافية على هضاب وسفوح ومرتفعات وجنبات الوطن العربي الكبير.!
في هذه الأيام - التي تشير فيها كل الدلائل إلى المحاولات الحثيثة والجادة الفلسطينية والعربية والاقليمية والدولية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، التي يدور من حولها مصير الإنسان العربي وجوداً وعدماً، ظهرت علينا قضية الاسمنت المصري الذي قامت خمس شركات فلسطينية بعضها مملوكة لأشقاء وزير الشؤون المدنية جميل الطريفي، وبتسهيلات من وزير الاقتصاد الوطني ماهر المصري بتسريبه للسوق الإسرائيلية لبناء سور الفصل العنصري الإسرائيلي الذي يكرس الاحتلال ويضم نصف أراضي الضفة الغربية لدولة العدو الصهيوني.!
إنهم نفس (فئران السفينة) التي تسابقت في السنوات الماضية - إرضاء لاسيادها في البيت الأبيض الأمريكي والكنيست الإسرائيلي - إلى تشويه تاريخ نضال وجهاد الشعب الفلسطيني من الداخل.!
نفس (فئران السفينة) التي تسابقت في السنوات الماضية - ارضاء لاسيادها في البيت الأبيض الأمريكي الكنيست الإسرائيلي - إلى تشويح تاريخ نضال وجهاد الشعب الفلسطيني، وإشاعة روح الانهزامية والاستسلام، وتشجيع العدو على مواصلة عدوانه.!
لا يختلف فلسطينيان على تأثير التسوية السياسية على مجالات الحياة الفلسطينية المختلفة، حيث دفعت هذه التسوية بالكثيرين من الرعاع والدعماء، وممن لم يكن لهم تاريخ نضالي عسكري أو سياسي، إلى القفز على السطح، والعمل بشكل علني بدون خوف أو وجل من أحد، بل أصبح كل واحد منهم يتباهى ببطولات غير موجودة لديه، ولا يعلم عنها هو نفسه شيئاً، وأصبح ينسب إلى نفسه أعمالاً كثيرة لم يقم بها ولم يحلم في يوم من الأيام بالقيام بها، وظهرت طبقة جديدة من طحالب الفساد، والمتسلقين، والانتهازيين، والوصوليين، والمنتفعين الذين احتلوا مناصب ليسوا أهلاً لها، واعتبروا أنفسهم فوق القانون، وفوق الضوابط، وفوق المساءلة والحسابات، وحجة كل واحد فيهم: أنه محرر الأوطان وقاهر الأعداء!!
وكان عزاء الفلسطينيين على صمتهم وصبرهم على هذه الفئة المنحرفة، أن أمرهم سينكشف عاجلاً أم آجلاً أمام السلطة والشعب، ومرت ست سنوات قبل ان يكتشف الشعب الفلسطيني خطأ ما اعتقدوا به، وظهرت في هذه السنوات أشياء وممارسات من بعض المتنفذين في السلطة، أصبح السكوت عليها يعتبر جريمة بل خيانة للوطن، وبعد أن كانت هذه الممارسات يتداولها بعض المتنفذين في السلطة بسرية تامة، أصبحت بعد فترة وجيزة منهجاً وظاهرة في المجتمع الفلسطيني، يتسابق بل ويتباهى ويتفاخر أزلام السلطة بممارستها على رؤوس الأشهاد، وأصبح شعار (من أمن العقوبة.. أساء الأدب) هو شعار السنوات الست الماضية من عمر السلطة، إلى أن جاءت انتفاضة الأقصى المباركة في 28- 9-2000 والتي لم تحاول السلطة استغلالها للقضاء على ظاهرة الفساد!
والسؤال المحير والذي لا نجد له تفسيراً منطقياً:
لماذا لم تخرج الجماهير الفلسطينية في مظاهرات غاضبة ضد الفاسدين والمفسدين في السلطة الذين أصبح المشهد الفلسطيني في وجودهم حالة من القهر والبؤس والكمد والغم والحزن والفقر المختلط بمهرجان نهب الوطن وتدمير اقتصاده وطمس هويته النضالية الممتدة على مدار قرن من الزمان؟!
ما الذي دهاك ايها الشعب المجاهد وجعلك مسالماً خانعاً مستكيناً صامتاً أمام ثلة من اللصوص والمحتالين والقتلة وأباطرة الفساد الذين يمارسون بغاء الفعل والقول، ويحللون الحرام ويحرمون الحلال، ويلمعون الاحتلال؟!
كيف نقرأ هذه اللامبالاة والخنوع والخضوع بين أبناء شعبنا على (فئران السفينة) الذين قايضوا الوطن بثراء الفاسدين والمفسدين، وعلى طحالب الفساد والمتسلقين والانتهازيين والوصوليين والمنتفعين الذين جعلوا من الوطن (بقرة حلوب؟!)
كيف سكت هذا الشعب على هذا (الطابور الخامس) من الأفاقين والمنافقين والجبناء ومعدومي الضمير وفاقدي الانتماء والكرامة الذين فضلوا المتاجرة بدماء شعبهم وقضية أمتهم ووطنهم؟!
أسئلة قد نجد لها الاجابة الشافية في الأيام القادمة من هذا الشعب الصابر والمجاهد.
وحتى لا نستمر في الانزلاق إلى أسفل مدارك العمل الوطني، وحتى لا تضيع دماء شهدائنا وجرحانا سدى يجب على كل فلسطيني فضح وتعرية كل البؤر والمستنقعات التي يعشعش فيها كل من ارتكب جريمة خيانة الوطن وبيعه في سوق النخاسة..؟! إذ ليس من الدقة ولا الصدق أن نستمر في التركيز على العدو الإسرائيلي بالرغم من دوره الأساسي في الكوارث والمصائب التي حلت بشعبنا، دون أن نلتفت إلى داخل بيتنا ومجتمعنا لنطهره من الفئران والطحالب الفاسدة والعفن، والتائهون والضائعون بين العجز والانحراف، والسرطان الذي ينمو وتزداد أورامه في أحشاء الأمة، والوجوه العفنة التي مسخت قضيتنا العادلة، والعقلية المريضة التي لا تحرم الإثم والانحراف وإنما تحلله وتفلسفه وتنظر له، وتضع له القواعد والمرتكزات من خلال مصلحتها الذاتية التي ترتبط بالضرورة بمصلحة العدو فتصبح وإياه شيئاً واحداً.
قد يقول البعض إن وجود مثل هؤلاء الناس أمر طبيعي داخل كل مجتمع وعند كل شعب من الشعوب، ونحن لا ننفي ذلك في المطلق، وقد يكون في ذلك بعض الحقيقة، ولكن التاريخ قد علمنا أيضاً أنه ليس هناك شعب من الشعوب ترك كلابه وجواسيسه وعملاءه ومزوري تاريخه، والمتآمرين على قضاياه المصيرية، يمرحون ويسرحون، ويرتكبون الإثم ويحكمون، ويتصدرون المسؤولية في مواقع الإدارة والتوجيه وجميع مرافق الحياة العامة التي تقرر مصير الأجيال المقبلة، مثلما نفعل نحن دون محاسبة أو عقاب، حيث يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وحيث يستوي أصحاب الرسالات والقيم والقضايا الوطنية، بالتجار والمزاودين والعملاء والجواسيس، والدجالين الذين يعبثون باستقلال الأوطان، وشرف الأوطان وكرامة الأوطان..!!
(*) مدير تحرير جريدة الحقائق - لندن |