* القاهرة - مكتب الجزيرة - - عتمان أنور:
هل يمكن أن يتغير الموقف النقدي الذي يتخذه الناقد من مبدع ما بمرور الأيام والزمن!! هل يمكن أن يستكشف الناقد جوانب أخرى في أعمال المبدع بإعادة قراءتها في أوقات وأزمنه أخرى قد تفرض عليه تبدل أو تطور رؤيته النقدية ؟! أم أن المواقف الأولية التي يتخذها الناقد من مبدع ما تظل هي المسيطرة وتتسم رؤيته بالثبات ؟! وهل يعتبر هذا الثبات قيمة أم قصور وعدم مواكبة المتغيرات!.
هذه التساؤلات وغيرها تتطرق إلى ذهن القارئ لكتاب (الواقع والأسطورة.. دراسات في الشعر العربي المعاصر) الذي صدر مؤخرا للناقد الأدبي الدكتور ماهر شفيق فريد حيث نجد رؤية الناقد تجاه الشعراء والمبدعين ثابتة وسبق أن أعلنها في العديد من مقالاته ودراساته النقدية منذ سنوات غير أن كتابة الجديد (الواقع والأسطورة) يتسم بتركيزه النقدي ومحاولاته التأكيد على آرائه تجاه أعمال بعض الشعراء والأدباء فيوجه انتقاداته الحادة لشعر نزار قباني وينحاز إلى أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي كما يتناول أعمال فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنه وحسن فتح الباب وغيرهم .
شاعر سعيد الحظ
يقول مؤلف الكتاب عن نزار قباني إنه شاعر سعيد الحظ ولكن ليس له مكانة في ديوان الشعر الخالد ويتساءل هل كان شاعراً كبيراً أم مجرد أسطورة ويجيب د. ماهر شفيق لا أنكر أن لنزار حفنة من القصائد التي ترقي إلى مرتبة الشعر العظيم لكنها بالغة القلة في سياق إنتاجه الغزير، بل الأغزر كثير مما ينبغي، هناك مثلا قصيدته العظيمة (القصيدة الزرقاء) (في مرفأ عينيك الأزرق) (أمطار من ضوء مسموع) وشموس دائخة وقلوع (ترسم رحلتها للمطلق، إلخ)، ولكن قصائده القليلة العظيمة ليست هي قصائده المقروءة، وإنما تستخفي على استحياء وسط قصائد أكثر إثارة تخاطب غرائز المراهقين، والعواطف السياسية، فقصائد نزار السياسية آنية بالمعنى السيئ للكلمة، بنت اللحظة ولا تدوم أكثر من دوام اللحظة، تخاطب رصيداً وجدانيا مخرونا لدى الجماهير ولا تصنع من قلب ذاتها إضافة إلى الوجدان العام، ولاشك أن الأصوات الرخيمة التي شدت بقصائد نزار قباني كان لها أثر كبير في توطيد دعائم شهرته، ونشر اسمه بين طوائف المتلقين إنه ببساطة شاعر سعيد الحظ.
ويضيف حين يوضع شعر نزار قباني في ميزان النقد الصارم سيتبين أن أغلبه متواضع القيمة، وأوله كآخره بلا نمو يذكر، لا مكان له في ديوان الشعر الخالد باستثناء أربع أو خمس قصائد. فهو لا يملك العمق الفكري ولا البراعة التقنية ولا القدرة على التطور التي تميز عملاً. وراء بريق ألفاظه ثمة افتقار إلى المعنى، أو بمعنى آخر بالغ السطحية، وركاكة فكرية إن جاز التعبير فلم يكن نزار شاعرا عظيما ( وإن أفلتت منه بضع قصائد عظيمة) ولم يصبح رحيله خسارة للشعر العربي فقد توقف عن الكتابة المهمة حقاً، والأساسية حقا، منذ زمن طويل، في حياته فإذا كان لي أن أستعير مصطلحات عبد المعطى حجازي بعد تطويعه لغرضي، لقد توقف شاعراً، ,استمر أسطورة، فهو مركب من الأسطورة والشعر، أما الأسطورة فباقية، وأما الشعر فزائل، أو أغلبه كذلك.
انحياز
كما يبدي مؤلف الكتاب موقفه الثابت المنحاز لشعر أدونيس أيضا ويقول عنه إنه كتب أهم ديوان عربي في هذا القرن وهو كتاب التحولات والهجرة في إقليم الليل والنهار:(تسبقه) أغاني مهيار الدمشقي (والمسرح والمرايا)؟. هذه هي الثلاثية التي تؤرخ بها مبدأ الحداثة الشعرية العربية، وما سبقها من بدايات السياب الرومانطيقية الفجة، ومنظومات نازك الملائكة الأكثر من فجة، ليس إلا دمامات واهنة، بالمقارنة.
ويقول إن أدونيس هو شاعر الحب، بامتياز، ليس الحب مجرد عاطفة بين الرجل والمرأة، وإنما هو- عند الشاعر الكبير - بؤرة تتلاقى فيها ورنا الإنساني، وتكتسب الأشياء بعداً ميتافيزيقيا يجاوز أبعاد المحسوس .وربما كان أدونيس هو أقرب شعرائنا إلى منح خبرة الحب هذا البعد العميق، وذلك بفضل حدسه الخلاق وثقافته الفلسفية والأدبية.
ويرى المؤلف أن دلالة أدونيس الناقد هي أننا بحاجة إلى رسم خريطة جديدة لمسار الشعر العربي تتسلل إلى العقول والقلوب والضمائر قبل أن تتسلل إلى مناهج الدراسة وكتب المقررات والمختارات في المدارس والجماعات .لقد أومأ أدونيس ب(ديون الشعر العربي). وكتاباته النقدية، وشعره هو ذاته إلى موروث بديل (ربما كان هو أقيم ما في التراث الشعري العربي) .
ولست بذلك أدعي أن كل ما كتبة أدونيس على مستوى واحد من الجودة، فأنا أرى أن عمله الأحق (المسرح والمرايا) انحداراً عن قيمة الثلاث التي أسلفت ذكرها. لكن الإنجاز قد تم، ولن يفلح في تغيير هذه الحقيقة جامدون على عمود الشعر القديم، ولا رومانطيقيون لا تطيق معداتهم الرقيقة ما جاءت به الحداثة من معطيات صارمة لاطمة.
كمل يتناول المؤلف أعمال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ويتساءل ما الذي يعنيه لنا شعره في عالم اليوم ويجيب إن مسيرته في ازدياد وقصائده الأخيرة في ديوانه أشجار الأسمنت تنم عن عقل متأمل ووجدان ظل محتفظا بخصوصيته وإن كان أميل إلى كبح جماح حماساته السابقة ففي القصائد الأخيرة جهد عقلي كبير ولكنها لا تزلف إلى التجريد البارد ولا تفقد ارتباطها بالعيني المحسوس
وإضافة إلى نزار قباني وأدونيس وحجازي يتناول ماهر شفيق فريد في كتابه أمل نقل وهل كان منتميا أم لا منتميا وكذلك الشاعر حسن فتح الباب في ديوانه حبنا أقوى من الموت وفاروق شوشة والوجه الأبنوسي وغيرهم وإلى جانب هؤلاء الشعراء الأفراد يعالج الكتاب قضايا أكثر عمومية مثل الحب في الشعر العربي المعاصر وشعراء السبعينات بمصر الذين اختلفت فيهم الآراء بين القبول والرفض ومنطلق المؤلف في هذا كله أن الشعر ثمرة جدل مستمر بين الواقع والأسطورة يحيل الموجودات الواقعية إلى تكوينات تخيلية غير مسبوقة كما يحيل الأسطورة المحلقة في سماوات الخيال إلى حقائق تمشي على الأرض.
|