Tuesday 22nd June,200411590العددالثلاثاء 4 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "منوعـات"

نوافذ نوافذ
الملز
أميمة الخميس

تزأر الأسود في ليل الملز، فيسمعها جميع سكان الحي، زئير أسودها ينطلق من قاع روحها المكبلة بالأسر تحن إلى أدغالها وحريتها وعروشها المستلبة. الملز أول الأحياء التي غادرت الرياض القديمة، وتلمست لها مصيراً آخر بعيداً عن أصولها الطينية وأزقتها الضيقة.
الملز السبعينات.. شارع جرير تتناثر على جنباته الفلل الأسمنتية حيث يعرض على جدرانها أشجار الياسمين والتوت ونخيل صامت على مضض إزاء مصيره الجديد.
الملز السبعينات يشق شوارعها أعمدة النور التي تتدلى فتمنح النور طوال الليل بدأب وصبر كأم منكفئة على رضيعها، ودكاكين متناثرة ما برحت مندهشة من بضاعتها الجديدة التي تأتي من خلف أسوار العالم الجديد، وثلة من أهل اليمن أنشأوا صناعة لبيع الأطعمة (مطبق وفول وتميس وشطائر مشكوك في أمر نظافتها) على الرغم من هذا كان دخان مطابخهم يغشى أجواء الملز في الأمسيات فيعطيها رائحة خاصة تشبه رائحة مطبخ منزلي حميم.
الملز فجر الذاكرة وأحداث بالكاد التقطها من أرشيف الأيام، ولربما أحداث أخرى كانت حتى قبل أن أولد، بيتنا في الملز تختار أحلامي الليلية دائماً أن تعود لتكمل أحداثها هناك، بين النوافذ الزجاجية المغلفة بدرفات خشبية، والجدران الخارجية التي تطوقها أشجار الكينا، ونافورة في وسط المنزل كانت تتناوب أدوارها بين نافورة وبركة للسباحة.
وعندما تحولت الملز فجأة إلى مادة إخبارية ساخنة تتناقلها شاشات التلفاز والمحطات الفضائية، أحسست بأنه انتهاك سافر على حي آمن يلوّح بمناديله البيضاء منذ الأزل ، عندما كنت أرى شوارع الملز في النشرة الإخبارية كنت أحس بأن القتلة يتجولون في فناء بيتي الخلفي، أي ليلة دامية أمضيتها أمام التلفاز وأنا أتابعهم وهم ينتهكون أركان الذاكرة.
أي حنق حملته ضدهم مشحون بالكراهية والبغض على جماعة استطابت رائحة الدماء كالضباع المسعورة، كنت أشاهدهم يقامرون بمصائر بشر وأمة وتاريخ تحدى وتشكل وتلمس مواقعه الإنسانية في الحضارة العالمية، وكانت أول مرابعه هي.. الملز.
لم يطفئ غيظي وغليلي سوى مشارف الفجر عندما غادرت قوات الأمن ذلك الحي تحملهم وقد استلتهم بمهارة بطولية من شوارع الملز طهّرت حيَّنا القديم من أدرانهم، واصطفت شوارع الملز مع حلول الفجر تهدي للأبطال أكاليل من هتافات وتصفيق لأبطال استحقوا ألقابهم.. شكراً باسقاً مثمراً مورقاً كأشجار الملز للذين افتدونا بأنفسهم وطهَّروا حيَّنا القديم.. شكراً لرجال الأمن الذين أنقذوا الذاكرة من وحل الدماء.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved