تعتبر النهضة العمرانية الهائلة التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال العقدين الماضيين من أبرز النتائج الملموسة لمرحلة الوفرة الاقتصادية، فقد ساهمت الدولة رعاها الله من خلال القروض العقارية الميسرة التي يقدمها صندوق التنمية العقاري في تحويل تلك الصحاري القاحلة وتلك المباني البدائية إلى هذه المدن الحضارية وهذه المباني الجميلة التي لم يكن أفضل المتفائلين يتصور تحقيقها. ولقد كان صندوق التنمية العقاري خلال مرحلة الوفرة الاقتصادية يعتمد اعتماداً مباشراً على الدعم الحكومي الهائل الذي ساهم في تمكين الصندوق من التوسع في الإقراض وبمعدلات سنوية متزايدة بغض النظر عن معدل التحصيل السنوي للديون المستحقة. ولكن مع انحسار الوفرة الاقتصادية المصحوبة بتزايد كبير في الإنفاق العام نتيجة للأزمات السياسية التي تعرضت لها منطقة الخليج، فقد تضاءل دور الدعم الحكومي للصندوق مما أدى إلى زيادة اعتماد البنك على المبالغ المستردة من المقترضين لتغذية طلبات الراغبين الجدد في الاقتراض. ونتيجة لعدم وجود آلية مناسبة لتحصيل القروض من المقترضين، فقد تناقصت معدلات الإقراض السنوية مما أدى إلى تزاحم كبير بين الراغبين في الاقتراض من الصندوق لدرجة أصبحت فيها فترة الانتظار تتجاوز العشر سنوات. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو لماذا نصر على استبعاد الإجراءات العملية اللازمة لتحصيل القروض ونعتمد فقط على الإجراءات الإقناعية القائمة على تقديم الحوافز كالإعفاء من نسبة معينة من قيمة القسط ونحوها؟ ثم لماذا لا يعامل قرض الصندوق كالقرض الشخصي بحيث يمكن إقامة مطالبة شرعية لدى الجهات الحكومية المعنية ضد كل ممتنع عن أو مماطل في السداد؟
أعتقد أن هنالك العديد من الأسباب التي تقف وراء هذا التراخي في تحصيل الديون المستحقة لصالح الدولة ولعل من أهمها القصور الملحوظ في التوعية الإعلامية مما قاد البعض إلى الاعتقاد بعدم حرمة المال العام. وهنا نجد أن هنالك الكثير من المقترضين القادرين على السداد ولكنهم يرون عدم إلزامية السداد بحجة أن المال العام ليس له نفس الحرمة التي يتمتع بها المال الخاص. وبالتالي فإن من اللازم أن يسعى الصندوق إلى تدعيم جهوده بجهد إعلامي توعوي مركّز يستهدف الفئة الممتنعة عن السداد ويعمل على إبراز الحرمة الشرعية لهذا التصرف غير السوي. ومن الأسباب أيضا عدم وجود آلية مناسبة تكفل متابعة المقترضين وبشكل دوري سواء عن طريق الاتصال المباشر بالمقترض أو عن طريق جهة عملهم في القطاعين العام والخاص مما أدخل المقترضين في غفلة النسيان أو التناسي وعطل عمل الصندوق وأطال في فترة انتظار المحتاجين والأرامل واليتامى، وعدم وجود آلية مناسبة تكفل منع المقترضين من الاستفادة التجارية من عقاراتهم التي تم تمويلها من قِبل الصندوق ما لم يفِ المقترض بالتزاماته المالية المستحقة للصندوق، وعدم وجود آلية مناسبة تحقق الاستفادة من سلطة الجهات الحكومية الأخرى في إلزام الممتنع عن السداد بالسداد حيث يمكن التعاون مع الجهات المالية في الإدارات الحكومية وفي القطاع الخاص لاقتطاع المبالغ المستحقة من رواتب الممتنعين عن أو المماطلين في السداد كما يمكن التنسيق مع كتابة العدل لاقتطاع المبالغ المستحقة من المماطلين عند رغبتهم في إتمام صفقة عقارية تستلزم مراجعة كتابة العدل. بشكل عام يجب أن يعي المقترض أنه مطالب بالسداد وفق الجدول المتفق عليه ومطارد من قِبل كافة الجهات الحكومية في حالة امتناعه أو مماطلته.
أسباب كثيرة عطلت الدور التنموي لصندوق التنمية العقاري ولكن يجب علينا أن نعي بأن الحاجة في الوقت الحاضر قد أصبحت أكثر إلحاحاً مما يعني ضرورة اتخاذ كافة التدابير اللازمة التي تكفل زيادة معدلات السداد السنوية دون أن يكون للعواطف غير المبررة مجال في تحديد هذه التدابير.
|