* تطالعنا الصحف هذه الأيام بقوائم تحمل آلاف المتخرجين والمتخرجات في قياس الثانوية العامة.. وقبلها بأيام قلائل، كانت الصحف تتحدث عن (أربعة أو خمسة) ملايين طالب وطالبة في صفوف التعليم العام. ويبدو أن لا وسيلة إعلامية واحدة تملك الرقم الحقيقي. وهذا راجع بالطبع إلى مصادر المعلومات في الوزارة التي تدير هذا التعليم، فهي -ربما حتى الساعة- تجهل هذا الرقم، بدليل أنها ظلت منذ سنوات تقف متفرجة صامتة أمام عرض مثير يتناول عدد طلابها وطالباتها يأتي دائماً متناقضاً متكرراً في كافة الصحف، هل هو (أربعة) ملايين...؟ أم (أربعة ملايين ونصف)..؟ أم (خمسة ملايين)..؟ أم غير ذلك؟
* الأرقام في حياة الأمم المتحضرة مهمة للغاية، والدقة في التعامل معها وايرادها أكثر أهمية؛ لأنها تشكل اساساً للدراسات التي تبنى عليها خطط التطوير والتنمية، فإذا كنا نتعامل مع الأرقام بهذا البرود المزري، فكيف نخطط لمستقبل أجيالنا إذن..؟!
* أعود إلى بداية كلامي عن آلاف المتخرجين والمتخرجات في أيامنا هذه، ذلك أن الفرحة بالنجاح لم تعد تلك التي نعرفها منذ سنوات خلت، حتى إن معظم الطلاب والطالبات لا يسألون عن النتيجة مثل أسلافهم، فهم البحث عن مكان في جامعة، أو فرصة عمل بهذه الشهادة، هو المسيطر على الكل. والمخرج من هذا الكابوس المرعب هو في دقة الدراسات البحثية، وفي تحليل الأرقام الاحصائية، ثم جدية العمل بعد ذلك.
* استوقفني ما يرضي فضولي في هذا الجانب المرقم، فقد وقفت على كلمة تحليلية في غاية الأهمية للشيخ (عبدالرحمن فقيه)، كان قد ألقاها في حفل يوم المهنة الثالث، الذي تم في جامعة أم القرى مساء يوم الثلاثاء 22 من ربيع الأول 1425هـ، وما ورد في هذه الكلمة الضافية التي لم تنل حظها من التعليق والانتشار هو بكل تأكيد من إضاءات (مركز فقيه للأبحاث والتطوير) الذي بدأ يأخذ مكانه في صدارة الدراسات البحثية الجادة في المملكة؛ ليسهم في التنوير على هدى، والتطوير على بصيرة، ويدعم توطين الوظائف بما أوتي من علم ودراية.
* إن الشيخ (عبدالرحمن فقيه)، صاحب ومؤسس هذا المركز، هو شخصية مكية سعودية معروفة، فهو رائد في الاستثمار الغذائي والانشائي في عموم المملكة والخليج، انطلاقاً من أم القرى حرسها الله، وله كذلك قدم سبق في ميدان التدريب والتوظيف للشباب السعودي.
* لقد تكلمت الأرقام هذه المرة من بطاح مكة كما لم نعهد ذلك من قبل في الاحتفاليات التي كنا نعقدها ونتبادل فيها كلمات المديح والمجاملات ثم ننصرف..!
* إن موضوع الساعة هو السعودة، وهو توطين الوظائف، وهو الأمن النفسي للفرد والأسرة والمجتمع، فماذا تقول الأرقام البحثية اذا تحدثت عن هكذا قضية؟!
* يقول الشيخ عبدالرحمن فقيه ما نصه:
إن الحديث عن المهنة هو حديث عن الكرامة والاعتماد على النفس والاستغناء عما في يد الغير، وهي مطلب اسلامي دعانا إليه رب العزة والجلال؛ حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} (البقرة: 267). وأكد على ذلك رسولنا الكريم الذي دعا إلى العمل وحث عليه، بل وقدم نموذجاً رائعاً يُقتدى به في كسب قوته من عمل يده، فاشتغل برعي الأغنام، وعمل بالتجارة، وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أفضل؟ فقال: (عمل الرجل بيده.. وكل بيع مبرور).
* إن ما يطرح من نقاش، وما يتم تداوله من آراء في يوم المهنة، يلقي الضوء على عدة نواحٍ تتعلق ببعضها البعض، كالسعودة والعمالة والبطالة. ولا شك أن البطالة تعد أحد أهم التحديات الاقتصادية التي تواجه المملكة. والاحصاءات المنشورة عن معدلاتها، والتي تعد في مجملها تقديرات اجتهادية، تشير إلى أنه بنهاية الخطة السادسة عام 1425هـ ستصبح نسبة البطالة في المملكة حوالي 13%..! ولا شك أن هناك عدة أسباب لارتفاع هذا المعدل من ضمنها:
أولاً: الزيادة المطردة في معدلات الاستقدام للعمالة غير السعودية، واذا استمرت هذه الزيادة بنفس المستوى فسيصبح لدينا بعد عشر سنوات 17 مليون عامل غير سعودي..! وحالياً يبلغ عدد السكان 19 مليون نسمة، يمثل السعوديون منهم 60%، أي ما يعادل 12 مليون نسمة، والبقية غير سعوديين، حوالي 7 ملايين نسمة. وعلى الرغم من أن نسبة السعوديين هي 60%، إلا أنهم لا يمثلون سوى 25% من القوة العاملة في المملكة، في حين يمثل غير السعوديين نسبة 75% من تلك القوة.
ثانياً: أعداد المتخرجين من الجامعات والمؤسسات التعليمية سنوياً يفوق بمراحل أعداد الوظائف الحكومية المطروحة، فعلى سبيل المثال: في عام 1422 - 1423هـ بلغ عدد الطلاب الخريجين 31339 خريجاً، وبلغ عدد الخريجات 24832 خريجة، بإجمالي 56170 يدخلون سوق العمل، ويضاف إلى هذا العدد الطلبة الذين تخرجوا من الثانوية العامة ولم يقبلوا في الجامعات، وفي المقابل يقدر الاقتصاديون عدد الوظائف الحكومية التي تتوفر كل عام بنحو 30 ألف وظيفة فقط!
ثالثاً: إن مخرجات العملية التعليمية وخطط التدريب لا تتسق مع متطلبات واحتياجات سوق العمل، فالاحصاءات تشير إلى أن 20% من المتخرجين هم من ذوي التخصصات العلمية، وأن 80% من المتخرجين هم من ذوي التخصصات النظرية، فهناك حاجة ماسة جداً لإعداد القوى العاملة السعودية في التخصصات العلمية، فعلى سبيل المثال، ومن واقع الاحصاءات المعلنة عن القوى العاملة في مجال الخدمات الصحية، نجد أن نسبة عدد الأطباء السعوديين في قطاع وزارة الصحة 18.3%، وفي القطاعات الحكومية الأخرى نجد أن نسبة عدد الأطباء السعوديين 39.5%، بينما نسبة عدد غير السعوديين 60.5%، وفي القطاع الخاص نجد أن نسبة عدد الأطباء السعوديين 3.3%..! بينما نسبة عدد الأطباء غير السعوديين 96.7%، ويتطلب توطين هذه الأعمال 49 عاماً على افتراض بقاء الوضع الحالي من حيث عدد كليات الطب 9 كليات، وعدد الأطباء المتخرجين 500 طبيب..!
* إن توطين القوى العاملة في القطاع الصحي له مردود اقتصادي كبير توضحه تكلفة الاطباء غير السعوديين حالياً، وعددهم 24582 طبيباً، والتكلفة التقديرية لإعداد اطباء سعوديين بدلاً عنهم، فالاحصاءات تشير إلى أن تكلفة هذا العدد من الأطباء غير السعوديين خلال عشر سنوات تبلغ حوالي 44 مليار ريال، بينما تبلغ تكلفة سعودة هذا العدد من الأطباء حوالي 31 مليار ريال.
* ثم يختم الشيخ فقيه قائلاً:
علينا أن نعمل جميعاً، القطاع الحكومي والقطاع الخاص، على سد الفجوة القائمة بين مخرجات التعليم وحاجة سوق العمل، وتهيئة المتخرجين وتدريبهم واعدادهم لسوق العمل، وأن تتضافر جهودنا لإحداث نقلة نوعية تنقلنا إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة مثلما حصل في (أيرلندا وماليزيا)، فأيرلندا كانت إلى عهد قريب من أكثر الدول الأوروبية تخلفاً، ثم تحولت خلال عقدين من الزمان إلى دولة تنافس الدول المتقدمة في صناعة الالكترونيات، وبلغ معدل التصنيع فيها 11% عام 2000م زيادة عن الأعوام التي سبقت. أما ماليزيا، فقد بلغ معدل التصنيع فيها عام2000 (21%).
* شكراً للشيخ عبدالرحمن فقيه على اسهاماته الوطنية الكيبرة والمشهودة, غذائية كانت أو إسكانية أو بحثية.
* أعتقد أننا في حاجة ماسة إلى توطين ثقافة الدراسة والبحث قبل توطين الوظيفة، وفي حاجة أكثر إلى علاقة حبية مع الأرقام، خاصة إذا جاءت على شكل احصاءات مدروسة.
* وحتى لا يستقبل وطنكم 17 مليون عامل في السنوات العشر القادمة، ولا تحتاجوا إلى 49 عاماً لتوطين وسعودة الوظائف، عودوا لتهجِّي الاحصاءات أعلاه لعل وعسى، ثم اشكروا (مركز فقيه البحثي).
fax:027361552 |