أسوأ صناعة في الحياة هي صناعة الأعداء!
وهي لا تتطلب أكثر من الحمق، وسوء التدبير، وقلة المبالاة، لتحشد من حولك جموعاً من المغاضبين، والمناوئين، والخصوم.
وقد علمتني التجارب أن من الحكمة الصبر على المخالفين، وطول النفس معهم، واستعمال العلاج الرباني بالدفع بالتي هي أحسن {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
يا من تضايقه الفعال
من التي ومن الذي
ادفع فديتك (بالتي)
حتى ترى (فإذا الذي) |
وعلمتني التجارب ألا آسى على أولئك الذين يأبون إلا أن يكونوا أعداء ومناوئين.. فهم جزء من السنة الربانية في الحياة.. وهم ضريبة العمل الجاد المثمر.
شكراً أيها الأعداء!
فأنتم من علمني كيف أستمع إلى النقد، والنقد الجارح، دون ارتباك، وكيف أمضي في طريقي دون تردد، ولو سمعت من القول ما لا يجمل ولا يليق..
وهذا درس عظيم لا يمكن تلقيه نظرياً، مهما حاول المرء حتى يقيض الله له من يدربه عليه ويجرعه مرارته أول الأمر، ليكون شيئاً عادياً بالمرة بعد ذلك.
شكراً أيها الأعداء!
فأنتم من كان السبب في انضباط النفس، وعدم انسياقها مع مدح المادحين، لقد قيضكم الله تعالى؛ لتعدلوا الكفة لئلا يغتر المرء بمدح مفرط، أو ثناء مسرف، أو إعجاب في غير محله، ممن ينظرون نظرة لا ترى إلا الحسنات، نقيض ما تفعلونه حين لا ترون إلا الوجه الآخر، أو ترون الحسن فتجعلونه قبيحا.
شكراً أيها الأعداء!
فأنتم سخرتم ألسنة تدافع عن الحق، وتنحو إليه، ويستثيرها غمطكم، فتنبري مدافعة مرافعة..
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
شكراً شكراً أيها الأعداء! |
فأنتم ذوو الفضل، ولو لم تشاءوا، في صناعة قدر من الاتزان والعدل في الفكرة.
ولربما أعطى الإنسان بعض الحق فوق قدره فكنتم السبب في إحكام التوازن ودقة التصويب والمراجعة.
ولا يأخذنكم الغضب من الإعراض، فإن المرء إذا دخل في المرادّة حرم نفسه فائدة النظر والتأمل، وانهمك في غمرة الرد والصد؛ فلم يبق في نفسه موضع للهدوء والتأني.. والتدقيق في قول المخالف فلعل فيه محلاً للصواب ولو قل.
شكراً أيها الأعداء!
فأنتم من شحذ الهمة، وصنع التحدي، وفتح المضمار، وشرع السباق، ليصبح المرء شديد الشح بنفسه، كثير الحدب عليها، حريصاً على ترقيها، وتحريها لمقامات الرفعة والفضل.. والتنافس سنة شرعية، وقدر رباني {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
وشرف المنافسة هو بشرف الأسلوب ونقاء الغرض، وصدق الوسيلة، وطهارة الجيب!
شكراً أيها الأعداء.
فأنتم من دربنا على الصبر والاحتمال ومقابلة السيئة بالحسنة والإعراض.
شكراً أيها الأعداء!!
فلعل في الميزان من الحسنات ما لم تنشط النفس لتحصيله من الخير والعمل الصالح، لكن بالصبر والتجمل والرضا والمسامحة والعفو..
أيها الأعداء!
أعلم أن بعض القول يسوؤكم، ولا والله ما قصدت به أن أسوأكم، ولكني أقول حقاً.. أنتم الأصدقاء الحقيقيون..
وأنتم إخوة في الله، مهما يكن الخلاف ولو نظرنا إلى نقاط الاتفاق لوجدناها كبيرة وكثيرة!
فنحن متفقون على أصول الإيمان، وأركان الإسلام ولباب الاعتقاد، فما بالنا نتكلف استخراج وتوليد معانٍ جديدة، لنفاصل حولها ونصنع الخلاف ثم نتحمس له؟
ليكن... ليكن هذا صدر مني.. أو ليكن صدر منك، عفا الله عما سلف، ولنصرف وجوهنا عن الماضي، ونلتفت إلى المستقبل، تفاؤلاً بخيره، وصناعة لمجده، وتعاوناً على البر والتقوى، وتواصياً بالحق والصبر، واستعادة لمعاني الحب والإخاء في الله، التي هي أعظم السعادة، ومن حرم خيرها فقد حرم.
إنني لا أصفكم بالأعداء لأنني أظنكم كذلك، كلا.. بل لأنني أظن أن ثمة من يريد أن نكون كذلك، ويسعى فيه جهده.. وإلا فنحن الإخوة الأصدقاء شئتم أم أبيتم.
سامحكم الله، وغفر لكم، وهدانا وإياكم إلى سواء السبيل، وأعاننا على تدارك النقص والخلل في نفوسنا، ومعرفة مواطن الضعف والهوى فيها، ولا وكلنا إليها طرفة عين!
أخيراً...
شكراً لكم أيها الأصدقاء...
والسلام،،،
|