جاءت الجمهورية الخامسة محمولة على أكتاف الحلم القديم الذي راود نابليون بونابرت، حتى وهو يدخل إلى معركة (واترلو) خاسرا، بيد أن هذا الرجل الذي حلم بالإمبراطورية العظيمة هو نفسه الذي أسس فكرة الاستيطان التي تعني في المنظور الفرنسي القديم جملة من التعريفات، أولها أن حمل التحضر والرقي إلى الشعوب الضعيفة لا يسمّى احتلالا لها، بل هو إنقاذ لها من وهدة التخلف والتدهور.
تلك هي الفلسفة التي عاشت بها فرنسا سنوات طويلة أخرى بعد انهيار الامبراطورية البونابرتية بتاريخ 18 حزيران من عام 1815م لكن ثقافة الاحتلال (الحضاري) ظلت هي نفسها من بعد نابليون بونابرت، بحيث إنها سرعان ما تحولت إلى استعمار جديد، تتأسس عليه مفاهيم أخرى عن كيفية نقل الحرب إلى الآخر بدل جلبها إلى هنا، والتي أفرزتها جملة من الظروف الإقليمية في الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وخصوصا في القارة الإفريقية التي هي من أكثر الأماكن التي عرفت استعمار الفرنسيين، بدءا من الشمال الإفريقي إلى الوسط الإفريقي وإلى أقصى الغرب الإفريقي.
ولعلّ الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830م كان أكبر الأفكار الاستعمارية التي بموجبها صارت الجمهورية الرابعة آنذاك وجها متناقضا يحمل في طياته صورة الرقي والفكر المتحرر والحر، والصورة الأخرى لدولة تمتد أيدي الاحتلال فيها إلى أكثر من دولة في العالم إفريقيا، وفي الهند الصينية بأقصى آسيا. لذا لم يكن غريبا أن يكتب الشاعر الفرنسي الكبير(شارل بودلير) قصيدته:
(رمح النار) واصفا فرنسا بكل التناقضات السخيفة، وبأنها تضحك على العالم برقي الحضارة التي في الحقيقة لا يتعامل بها السياسيون في علاقاتهم مع الدول الضعيفة أو المستضعفة.. فكانت تلك القصيدة أشبه بحالة من الثورة على رؤى مريعة كانت تجعل من المناخ السياسي والاجتماعي الفرنسي حالة من الانفلات الحقيقي نحو مزيد من الحرب ومن الصراع.
منظور براغماتي
بهذا المعنى جاء استهلال صفحات كتاب (طعم الرماد) للمؤلف الفرنسي (جي ميليير) الصادر مؤخرا عن منشورات ( فرنسوا غزافييه دوجيبير) الفرنسية، ولعل عنوان الكتاب المثير للتأمل يطرح الكثير من الأسئلة، ليس لأن الكتاب جاء في ظروف سياسية استثنائية تعيشها فرنسا في الآونة الأخيرة، بل لأن الكاتب يطرح لأول مرّة الرؤية الفرنسية للعالم، من منظور براغماتي قريب من الشارع الفرنسي الذي لأول مرة أيضا يشعر بالضيق من كل المؤسسات القائمة اليوم على الشمولية الخطابية فقط، وعلى تاريخ لم يعد يتسع في النهاية لهموم كل الناس، لهذا كان العنوان سببا في الكثير من الجدال الذي عاشته الصحف الفرنسية التي تناولت الكتاب من منظور سياسي محض، على اعتبار أن الكاتب (جي ميليير) كان عضوا سابقا في البرلمان الفرنسي، وكان واحدا من الذين رفعوا خيار الديغولية الفرنسية في منتصف القرن الماضي لأجل تغيير جذري في الواقع الفرنسي الذي عاش طويلا على النسق البونابرتي بلا طائل، ولكن الأمور اليوم تغيّرت أيضا، لأن فرنسا اليوم وصلت إلى مفترق الطرق السياسية الأكثر تعقيدا، على اعتبار أن العديد من الدول الأوروبية المجاورة قبلت بالتغيير الحاصل دوليا، ومارسته أيضا، بلجيكا نفسها عاشت في الفترة الماضية التغيير السياسي الأكبر في تاريخها منذ وصول اليساريين إلى الحكومة بقوة، بعد أن قطع عنهم الطريق اليمينيون المعتدلون طوال خمسين عاما الماضية.
انهيار الديغولية
كان الجنرال شارل ديجول واحدا من الذين بدأوا حياتهم العسكرية من قراءات تاريخية للإمبراطورية الفرنسية القديمة بقيادة نابليون بونابرت، لهذا كانت سياسته بونابرتيه في زي جنرال حرب جديد، وكان يريد أن يصنع من فرنسا الدولة العظمى بنفس النسق والأسلوب النابليوني القديم تقريبا.
بالنسبة للشعب فإن أمنية الانتعاش السياسي والاقتصادي هي الأهم من أي خطاب سياسي آخر، وربما لأن شارل ديغول وقف في عام 1959 في وجه الأمريكيين في أكبر خطاب سياسي وجهه متحديا الرؤية الأمريكية بعيدة المدى لاحتلال العالم، كانت كافية لتجعل منه قائدا في نظر الفرنسيين، وفي نظر بعض الأوروبيين الذين كانوا يعتبرونه حاملا لمسيرة تغييرية على المستوى الأوروبي ككل.
مزاعم الرقي
الصراع الديغولي الحقيقي لم يكن لأجل سلطة الشعب، بل لأجل السلطة ككل، السلطة فحسب، فالتوجه الذي انحاز إليه الديغوليون منذ شارل ديغول، كان في نفس الإطار المنهجي السياسي بلا تغيير، بنفس الجمل السياسية، وبنفس الخطب وبنفس الوجوه تقريبا، حتى العودة إلى التاريخ كانت على نفس الشاكلة المرتبطة بالقوميات الشمولية التي كانت تجعل من المواطن الفرنسي كائنا قويا في ظروف منهارة في جل الحالات، وهذا بالضبط ما عرفه شارل ديغول في الخمسينيات، في أوج الثورة الجزائرية التي عرّت لأول مرة حقيقة ( الرقي) المتمثل في الاستعمار الفرنسي، عبر عدد الذين كانوا يسقطون من الجانب الجزائري دفاعا عن أرضهم وكرامتهم.
كانت الخارطة الديغولية أيامها في حالة انهيار حقيقي ليس لأن الثورة الجزائرية كانت الأقوى، بل لأنها كانت تحمل نفس المبادئ الإنسانية المطالبة بحق الشعب الجزائري في تقريرمصيره، ولهذا كان شارل ديغول الذي أسس حركة (التحرر والمصير) أمام واقع ليس من السهل تجاوزه، فكان النصر الجزائري في يوليو من عام 1962ربما شهدت فرنسا موجة من الديغوليين الجدد الذين أرادوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وكان جاك شيراك واحدا من هؤلاء، وإن كان المثل الأعلى لشارل ديغول - كما قلنا - هو نابليون بونابرت، فإن المثل الأعلى بالنسبة لجاك شيراك هو شارل ديغول نفسه، بحيث إن الإعجاب الشديد الذي أبداه شيراك بديغول وصل إلى حد (استنساخ) بعض خطبه، وإعادة صياغتها بجملتها وتفاصيلها للحديث عن الحلم الفرنسي في العظمة، وللحديث عن التاريخ الفرنسي المرتبط في ذهنية الفرنسيين بنفس تلك الأفكار الشمولية التي أكل الدهر عليها وشرب! هذا لأن الخطاب السياسي ارتطم دوما بالواقع الصعب على المستويين الداخلي والخارجي، فالصراع الفرنسي الأوروبي على القفز إلى الرّيادة وصل إلى أوجه في السنوات الخمس الأخيرة، والصراع الفرنسي الأمريكي وصل إلى قمته في العامين الأخيرين، والصراع الفرنسي البريطاني كشف عن حقائق ظلت مدفونة تحت التراب عن حدة الصراع القديم بين المملكة المتحدة وفرنسا الذي ظل يزحف بشكل سياسي هادر وخطير تحت الماء الهادئ إلى غاية الانفجار العلني ذات يوم.
وجود على المحك
الرئيس الفرنسي جاك شيراك قدّم حلولا (ديغولية) للشعب الفرنسي حين تقدمه إلى الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 17مايو من عام 1995م ربما وصول شيراك إلى الحكم كان على طبق من التناقضات الرهيبة على اعتبار أن الخيار السياسي لشيراك عام 1995م كان عبارة عن الجملة الفرنسية القديمة القائلة (فرنسا الحريات الإنسانية يجب أن تمضي إلى الأمام برأس مرفوعة)، وقد تصادمت هذه المقولة برمتها أمام اكتشاف الفرنسيين أن الدور الفرنسي في الخارج ليس (إنسانيا) دائما، فالوجود الفرنسي في عدد من دول أفريقيا السوداء صار على المحك، ربما لأن دولة مثل ساحل العاج أعلنت العصيان الحقيقي على فرنسا في أكتوبر من سنة 1999م حين خرج شبابها إلى الشارع رافعين لافتات مناوئة لفرنسا، حدث ذلك للمرة الثانية وبشكل أخطر في ساحل العاج السنة الماضية، وحدث في الكاميرون، وفي عدد من الدول التي تعتبرها فرنسا إلى يومنا هذا (مستوطناتها) القديمة.
الخلل الذي حدث في الدور الفرنسي ليس سببه فشل فرنسا في أداء دورها الاستعماري القديم، وليس لانهيار الفكر الاستعماري نفسه، بل لأن البدائل التي حدثت دوليا صارت تسمى القوة العظمى حلما يدغدغ الكثير من الشعوب التي (تحلم) بالأمركة وفق ما صارت تمنحه السينما الأمريكية من حرية في كل شيء، بما في ذلك حرية الانحلال والاغتصاب والقتل والجريمة والاغتيال والمخدرات وكل ما له علاقة بكل ذلك!..طعم الرماد اليوم هو فرنسا التي تبدو على المحك، ليس لشيء سوى لأن الشعب الفرنسي يشعر بالتعب من تكرار نفس الوجوه وتكرار نفس الجمل السياسية الرنانة المتعارضة مع الحقيقة البسيطة التي تقول: إن العالم تغير، وأن الأصدقاء الأعداء ليسوا من الثقافات الأخرى، بل من نفس الثقافة، ومن ذات البلد أحيانا، فالصراع القائم بين فرنسا وأوروبا وأمريكا هو صراع التواجد ليس كدولة الحريات الإنسانية، كما يقول الفرنسيون بل كدولة تريد أن تكون قوية في فرض احترام الآخرين لها، مهما كان الوضع الذي تعيشه داخليا، كما قال (ألان جوبيه) قبل سنوات قليلة: الرماد الفرنسي هو التاريخ الذي انتهى فعلا قبل أكثر من نصف قرن، لأن شارل ديغول أفلس في القرن الواحد والعشرين، وأي قوى سياسية سوف تتكلم بأسلوب الحلم الفرنسي القديم هي قوى ديغولية أثبت أكثر من 57% من الفرنسيين أنهم لا يريدونها، حسب ما أوردته جريدة (اللوموند) بتاريخ 5فبرايرمن عام 2003م.
الكتاب: UN GOUT DE CENDRE
المؤلف: GUY MILLIERE
الناشر: FRANCOIS-XAVIER DE GUIBERT -FRANCE |