كل الأطباء المختصين بالبحث عن أسرار السرطان في العالم يتطارحون الآن هذا السؤال: لماذا يثور البدن الإنساني على الجسم الغريب عنه في عمليات تطعيم القلب مثلا، وينبذه إلى الخارج، في حين انه لا ينبذ الورم السرطاني؟..
مع أن الورم الخبيث ليس في نظر الطب سوى مجموعة من خلايا زائدة أي غريبة عن سائر الخلايا، مثلها مثل العدو الذي يتسلل خلسة إلى الحصن لكي يدمره من الداخل!
وكان هذا السؤال بل قل هذه (المسألة) مدار البحث والنقاش في مؤتمر طبي عالمي انعقد مؤخراً في باريس وحضره جهابذة الطب من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وانكلترا.. الخ.
وكان لا بد من التباحث أيضا في هذا المظهر العجيب الذي أثبته الطب منذ زمان بعيد ولم يكشف حتى الآن سره: وهو أن غشاوة كل خلية في النسج الحية انما يشتمل سطحها على ذرات من مادة مجهولة الجوهر ويطلق عليها اسم (مكونات الضد) ووظيفتها في البدن هي الاشارة في كل لحظة إلى وجود خلايا مضرة أو أجسام غريبة عن البدن. فان مثلها مثل حارس القلعة الساهر على بابها والمكلف بالنفخ في صفارة الانذار.
غير أن من وظائف (مكونات الضد) أيضاً، أن تولد على الفور (اجساما ضدية) لكي تهب إلى مقاتلة العدو وترده إلى خارج البدن. وهذا ما يحصل مثلاً عند هجوم طائفة من الجراثيم المرضية على البدن. ويحصل مثل ذلك في حالة تطعيم الأعضاء كزرع القلب، ولذلك لا تلبث الحرب أن تقوم بينها وبين القلب الدخيل أو (المطعوم).
وخير صورة على هذا المظهر، أن عملية التطعيم إذا جرت بواسطة جزء من نسيج البدن نفسه أي إذا استؤصل جزء من البدن وطعم على جزء آخر من البدن نفسه، فلا يحصل عندئذ ما نسميه (نبذ الأعضاء).
ولكن لماذا لا نشاهد مثل هذه الحرب بين هذه الخلايا وبين الأورام السرطانية؟
ذهب أحد الاختصاصيين في هذا المؤتمر الباريسي إلى أن الخلايا السرطانية السائرة في المجرى الدموي انما تحوط مكونات الضد درع وتمنعها عن توليد الأجسام الضدية لنبذ الخلايا السرطانية إلى خارج البدن.
ومها يكن من صحة هذه النظرية، الا أن الاجماع سائد بين العلماء على القول إن مجرد ظهور خلايا سرطانية في البدن انما يتصادف مع فتور ملحوظ في نشاط مكونات الضد، حتى وان لم يكن السبب معروفا بمعزل عن الشك.
ولذلك يلاحظ أن الأبحاث الجارية في المخابر في موضوع السرطان بجميع أشكاله إنما أخذت تتجه اتجاها جديداً، وهو الاتجاه نحو كشف اسرار المناعة البدنية. ففي كل الأحوال تتم المناعة البدنية على الشكل الموصوف فيما مضى ذكره، إلا في حالة ظهور خلايا سرطانية!.
فكائنا ما كان شأن النظريات المختلفة فيما يتعلق بأصل السرطان، وسواء جرثومياً كان (حسب المدرسة الفرنسية) أو غير جرثومي (حسب المدرسة الأمريكية) إلا أن الحقيقة الثابتة هي أن البدن لا يمتنع من تلقاء ذاته على السرطان، في حين أن له مناعة تلقائية وفورية ضد كل جسم غريب عنه، حتى إذا كان هذا الجسم مفيداً له كما هي الحال في زراعة القلب.
وهل تكفي نظرية (الوراثة) للتفسير؟ زعم ذلك بعض الأطباء، ولكن التفسير بالوراثة لا يجدي فتيلاً كما يقال! ولا يقرب ساعة الانتصار على هذه الآفة التي أعيت الطب حتى اليوم.
ولا بد من الذكر أخيراً أن مؤتمر باريس لم ينفض قبل الاتفاق على تنظيم حملة عالمية انما المراد منها استخدام دماغ الكتروني جبار لتمحيص كل نتائج الابحاث التي جرت في مخابر العالم حتى اليوم في موضوع السرطان.
وعلى هذا الدماغ أو العقل الالكتروني أن يعالج الاحصاءات التي جرت حتى اليوم في شتى اقطار العالم، ثم عليه أن يصنفها وأن يبين حالات الشفاء وحالات الموت حسب كل نوع من أنواع السرطان وحسب كل أسلوب من أساليب العلاج.
وربما تغيرت بعد هذه العملية الحسابية والاحصائية نظريات كثيرة كان مسلما بها حتى الأمس..
|