إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
أستهل حديثي بهذا البيت الجميل والرائع، والذي يجسد ما يخالج الشاعر الرائع أيضاً، في استشعار بديع بقيمة الأخلاق، وأثرها، ليس على الأفراد فحسب، بل أنها تنسحب كذلك على الأمم، لتكون بذلك مؤشراً دقيقاً ومقياساً بليغا على رقي الأمم وتقدمها، فمهما بلغت من القوة ما يشبع غريزة الإنسان الضعيف، في التميز والتفرد بتفوقه في جانب معين بمعزل من الأخلاق، فإنها أمة ضعيفة، بل إنها أضعف من ذلك، لأن انتفاء الأخلاق سيؤدي بها لا محالة إلى الهلاك، لتزول وتذهب كما توقع لها الشاعر ذلك بل أنها النتيجة الطبيعية، فكم من أمم هلكت لا بضعف في قدرتها ومقدراتها بقدر ما فقدت حنكتها وحكمتها، في المحافظة على أسس البقاء، وبالتالي زوالها من أرض الواقع، وبقاؤها في التاريخ نقطة سوادء وعبرة لمن يغره الورم والانتفاخ يحسبه ميزة بينما هو في واقع الأمر استدراج محكم لسقوط مظلم، في براثن الضياع، تلو الضياع، وتتبلور أخلاق الأمم وتتشكل بسلوك افرادها، حينها يتم القياس بالأغلبية، لأن الأقلية تندرج في نطاق الشاذ، والشاذ لا حكم له، من هنا حرصت الأمم على بناء الأخلاق، معتبرة من تجارب الأمم السابقة، وفقاً لمعطيات تتسق مع قيمها ومبادئها، وبذلك تحتضن وتحتوي أفرادها، بترشيح هذه الأسس وتشكل لهذه الأمر ميزانيات تختص بالتربية ما يفوق التسليح بهذا المضمار مدركة مغبة التساهل أو التفريط.
في هذا الجانب، وانعكاسه سلباً وما يفرزه من انتشار للجريمة، ما يهدد أمنها، وبذلك يكون الشاعر قد أصاب كبد الحقيقة حينما ربط البقاء بالأخلاق، لانتفاء الضوابط التي تتشكل ركيزة أساسية في المجتمعات، والأديان السماوية، تحث على السلوك النبيل واحترام الذات البشرية التي خلقها المولى سبحانه، وتبين ما لها من حقوق معنوية واعتبارية وواجبات، وجاء الإسلام كدين خاتم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن أركانه الإيمان بالله وكتبه ورسله، وبعث نبي الهدى عليه أفضل الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق، قال عليه السلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والمولى عز وجل خاطبه في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فكانت أخلاقه عليه السلام نبراساً للبشرية، وهو الصادق المصدوق بأبي هو وأمي، وما يحز في النفس ويعتصر القلب ما ينشره الفضاء من أوبئة من خلال فئة شاذة، لم تقف عند التجريح فحسب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، زحفاً على أنقاض القيم والمبادئ، والذي أخشى أن تكون فقط مذكورة في الكتب بعيداً عن التطبيق شأنها بذلك شأن الإيثار والذي استعصى على الفهم وقد يعتقد البعض بأنه لا يعدو كونه اسماً لمنتج ليذوب هذا المفهوم والسلوك النبيل في جليد الانحلال الأخلاقي، وهكذا تفقد الأخلاق من مقوماتها شيئاً فشيئاً، ليستمرئ قراصنة الفضاء والأرض في ظل الذهول والغفلة، نشر بوادر الفسق والفجور عبر هذه الأجهزة المتطورة والمتهورة في نفس الوقت، ولو أن هذه الآلات تشعر لتفحمت من جور ما يساق في جوفها من إفك وبهتان، وتتبع للعورات وإيقاع الناس بعضهم ببعض، هذا يكيل السباب والشتائم لملة هذا، وذاك يكيل له الصاع صاعين، وهم ضائعون، مخلوق بلا هوية فلا هو إنسان أدرك ما حباه الله من نعمة العقل ولا هو بالبهيمة التي لا تدرك، أصناف تنامت وتكاثرت وأوغلت في ظلم أنفسها، ولا يطيب لها الحال حتى تجثم الخطايا على أفئدتها، يضغطون على الأزرة شلت أيديهم ليشعلوا بذلك نيراناً تحصد ما بناه الأخيار لإعمار الأرض في طرفة عين. والسؤال هنا، ما هي المحصلة والقيمة المتوخاة جراء هذه المسرحيات السافرة، والغريب بأن هؤلاء الأوباش لا يخرجون عن النص فهم يؤدون بإتقان أفناهم الله عاجلاً غير آجل، ومهما يكن من أمر فإن المسؤولية في هذه الخروقات الآدمية يحمل جزءاً كبيراً منها الأسرة في المقدمة والمدرسة بل المجتمع بشكل عام فالنزعة العدائية المملوءة بالكره والحقد والبغضاء لا تولد مع الإنسان بقدر ما تنمو عطفاً على إرهاصات الواقع والتفاعل مع ما يختزنه العقل الباطن والشعور بالرغبة واللذة في نفس الوقت عندما يصيب أحداً من البشر ويسيء إليه، وأجزم بأنها رغبة وقتية نسج لها الشيطان خيوطاً من حرير، وهنا يكون أضعف من أن تحمله قدماه ليسهل الانقضاض عليه والزج به في أتون المعاصي مكبلاً بأصفاد الرذيلة، ولو ولجت إلى أعماق قلبه بعد أن يحقق مآربه، ستجد مساحة من الحزن داخله تفوق أضعاف الشعور باللذة حينما بدأ مشواره، إذن نحن أمام عنصرين في شخص واحد، الخير والشر، وكما أسلفت لذة الخير تبقى ولذة الشر تفنى، وبين هذين العنصرين مقومات ومسببات، وصراع مرير داخل النفس البشرية، وإذا كان الإنسان يسعى في الأرض لتحقيق هدف معين ولو كان الحد الأدنى لقيمة هذا الهدف، إلا أنه يسعى بكل ما أوتي من قوة لتحقيقه، فلماذا لا يقترن بالهدف الأسمى والآجل في الآخرة، وليس له عذر وقد تبين له منذ نعومة أظافره الخير وما يجلبه من سعادة، والشر وما يجلبه من تعاسة وانتكاسة، وتتشابك هذه الخيوط الرفيعة بهذا النمط أو ذاك وتخضع لاعتبارات من ضمنها التأثر والإقناع والاقتناع، فالأبيض لا يمكن أن تراه رمادياً، أو توحي بأنه كذلك لمن يسمعك إن رغبت في ذلك، فإذا كانت الألوان واضحة فإن القيم والمبادىء كذلك وتمرد الذات وجلدها بسياط الشعور بالذنب نابع من تصرفه وسلوكه، فمن لا يرغب بالطمأنينة مكابر، ومن لا يرغب بالسكينة مغامر في سباق خاسر.
وتجدر الإشارة إلى أسباب تذكي النزعة العدائية كالشعور باليأس والإحباط وانعدام التفاؤل، قال الشاعر:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل |
والإفراط في التفاؤل قد يؤدي إلى نتائج عكسية لا تؤمن عواقبها، والإفراط في التشاؤم كذلك، فوصف الشاعر صعوبة العيش ومقتضيات الانسجام الحتمي بانتفاء التمرد وأمسك بتلابيب الأمل ولذلك كان دعاء المؤمن (رب اجعل لي من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية) وقال رب العزة والجلال: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} والرسالة إلى من استرخصوا أنفسهم وآسروها بضاعة بخسة في سوق الرذيلة بأن لنفسك عليك حقاً فلا تؤذها بأذية غيرك لأن انعكاس السلوك غير السوي لن يلبث مؤرقاً لك ولن يبرح القلق مكتفاً أضلاعك حينما تخلو إلى نفسك لتجد الوحشة أنيسك والهم جليسك، وتبعات ما أصاب لسانك واقترفت يداك لن يحملها أحد غيرك، فبادر من أمرك ما يحلو لك وأقسم من الخوف والخشية من الله تعالى ما يحول دونك ودون عنائها، وجرها إلى بئس المصير، ومن أشد الأمور نكاية بالإنسان بل وأعمقها أذى وتجريحاً حينما يسَّبُ دينه، ويتمنى المرء أن يهلك دون حدوث ذلك، ويستمرئ هذا في سب دين ذاك مسوغاً لهم الخوض في هذا الأمر الخطير والجلل، ليتجرأ الاثنان في اقتحام أسوار المعصية، وأية معصية نسأل الله السلامة والتوبة والمغفرة من كل ذنب خطيئة قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام آية 108) وتقترن الأخلاق بالأدب وأجله وأجمله. ما كان مع الله سبحانه وتعالى، وهو القابض الباسط المعز المذل، ولنا في نبي الله موسى عليه السلام أسوة حسنة حينما طلب من ربه بأن يشرك معه أخاه هارون قال تعالى: {هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} سورة طه الآيات( 30 - 36). أدب جم مع مالك الملك من نبي الله، فأين موقفنا ونحن وبكل أسف نستشرف التعالي ونعرض عن الإلتزام بأوامره واجتناب نواهيه (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)، وفي واقع الأمر فإن الحديث في موضوع دقيق وحساس وليس مرهوناً فحسب ببقاء الأمم بل ونجاتها، لا يمكن بأي حال من الأحوال الإحاطة بجميع جوانبه واختزاله في مقالة أو مقالتين أو ثلاث، بل أنها كتب تؤلف، ورسائل وأطروحات، كيف لا وهو يمثل عصب النسيج الاجتماعي على اختلاف طوائفه، ولا يمكن التطرق له بعجالة ما لم تتوفر القناعة بإثراء المادة المطروحة من حيث المحتوى، ومحاكاة المشاعر بلباقة ولياقة، وإذا كانت القسوة على ممتهني السلوكيات الشاذة والمنفرة فإنها ليست انتقاماً بقدر ما هي شفقة عليهم في ما هم فيه من ضياع (والعاقل خصيم نفسه). اللهم اهدنا وإياهم إلى سواء السبيل.
ولئن كان الأدب صنو الأخلاق فإن المثالية معين الأخلاق الذي لا ينضب، بل أنها تشكل رافدا اساسياً وقويا في اكتمال مكارم الاخلاق، والمثالية هذه الكلمة الرقيقة والمفعمة بالنبل والصفاء، إنما هي ترجمة صادقة ودقيقة لتطبيق المثل العليا، ومن غير اليسير بل من الصعوبة بمكان أن تجد مجتمعاً مثالياً مائة بالمائة بيد أن حتمية تطبيق الحد الأدنى تفرضه بطبيعة الحال معطيات الحياة ومتطلباتها وصولاً إلى بلوغ الحد الأعلى، وهكذا يتحقق رقي الأمم وتقدمها وسر سعادتها واطمئنانها التصاقها بالقيم والمبادىء بمعزل من التساهل أو التفريط في هذه الأسس، وحينما تتوارى المثالية وينحسر تطبيقها أو بالأحرى تكون دون المستوى المطلوب، فحينئذ فإن من فقدها سيرزح تحت وطأة هم لا قبل له به ولا أحد يبلغ درجة الكمال والكمال لله وحده، إلا أن الإنسان يسعى جاهداً لبلوغ هذا الهدف، وإن كان بلوغ هذا الهدف بحد ذاته يعتبر مؤشراً إيجابياً للسير في الطريق الصحيح واحتواء السلوك وما يفرزه ويرافقه من اخطاء عبر التوضيح والتصحيح بالكلمة الطيبة الصادقة من خلال الإقناع المؤثر بعيداً عن التجريح الذي لن يورث إلا التجريح المضاد، وكذلك مصادرة الاحتقار والإزدراء في هذه الحالة لتسمو الروح بشموخ العزة والإباء عبر الألفة التي توجب المحبة، وبالتالي إنشاء صيغة ملائمة تتيح للجميع الانصهار في وحدة متكاملة مشكلة الإضاءة تلو الإضاءة لوطن يتسع للجميع ويحبه الجميع وانعكاسه إيجاباً على رقي وتقدم الأمة متسلحاً بمبادىء وأخلاق أبنائه الفاضلة، ومن الامور التي تحدد مسار الأخلاق في وقت أضحى فيه بريقها على المحك ألا وهو ضبط النفس، وخصوصاً عند المحن والشدائد، وهنا يكون المقياس مؤثراً عطفاً على التحكم والسيطرة على المشاعر، والانضواء تحت لواء الحكمة في هذه الظروف العصيبة ليتجلى نبل الأخلاق، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه أفضل الصلاة والتسليم وقال: (يا رسول الله أوصني، قال: لا تغضب وكررها ثلاثاً) ذلك أن المعاصي وارتكاب الذنوب تكون في هذه الحالات أقرب لقرب إبليس اللعين وبسط سيطرته على النفس وزجها في أتون الخطيئة. قال الشاعر:
إذا طالبتك النفس يوماً بشهوة
وكان عليها للخلاف طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما
هواك عدو والخلاف صديق |
ولعل من المناسب التطرق إلى ناحية مرتبطة كذلك بحسن الخلق هو حفظ الجميل ورد الجميل بأجمل، لأن نكران الجميل من القبح ما يشير إلى دناءة النفس، وفقأ عين الصواب بالمماحكة، ومن شأنه كذلك اهتزاز الثقة ليحاصر المعروف وأهله بالتوجس من ذلك وعدم الإقدام على فعله، وما يعوق تفعيل التواصل والترابط بين الناس.
ويحكى أن أعرابياً عثر على ذئب رضيع في البادية، فاحتضنه إلى خيمته رحمة به وعطفا عليه، وأعاشه بين غنمه، ووثق صلته بشاة حلوب، فباتت ترضعه، وترعاه رعاية الأم لوليدها، فلما اشتد عوده فتك بها فقال:
أكلت شويهتي وفجعت قلبي
وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرها وربيت فينا
فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء
فلا أدب يفيد ولا أديب |
|